شعار الفصل وإنشاء الجدران العالية يسيطر على عقول الجميع في إسرائيل

TT

تشكل «نظرية الفصل»، (الفصل بين الاسرائيليين والفلسطينيين)، الركيزة الثانية في التفكير السياسي الاسرائيلي في مواجهة الانتفاضة. وبالرغم من أن نظرية الفصل شائعة في الأوساط القيادية وفي الأوساط الجماهيرية، حتى لتبدو وكأنها تحظى بالاجماع، الا انها في الوقت نفسه من أكثر النظريات التي تثير الخلافات السياسية والايديولوجية في اسرائيل، ولذلك فانها ما تكاد تظهر حتى تختفي، وهي تظهر دائما بعد عمليات فدائية تهز المجتمع الاسرائيلي، ثم تختفي بعد ذلك أمام سيل التعقيدات الذي يرافق البحث فيها. ويستوي في قبول النظرية ورفضها في الآن نفسه، اليساريون واليمينيون، العلمانيون والمتدينون، حتى أن أحدهم يكتب متهما القيادات بأنها تستغل نظرية الفصل لتهدئة الجمهور الاسرائيلي الغاضب بعد كل عملية فدائية كبيرة.

ولتوضيح مدى اتساع نطاق النقاش الاسرائيلي حول نظرية الفصل، ولتوضيح مدى الخلاف حولها، نستشهد بما ورد في مقالة للصحافي ليلي غليلي (هآرتس 28/6/2001) اذ كتب يقول «هناك مفهوم جديد للجدل الاسرائيلي في الأشهر الأخيرة، الفصل أحادي الجانب، ولكن رغم استخدامه بشكل واسع الا أنه لا يملك هوية أيديولوجية واضحة»، ويشرح الكاتب قائلا «استخدام المصطلحات يصنف القائل بها ايديولوجيا، فمن يقول بالضم يكون من اليمين، ومن يقول بالعودة الى حدود 1967 يكون من اليسار، ومن يستخدم اصطلاح التسوية المؤلمة يكون من الوسط، ولكن من يستخدم اصطلاح الفصل أحادي الجانب فما زال غامضا بشكل كبير، وليس واضحا بالمرة ان كان ينحاز الى اليمين أو الى اليسار». ولكن ما الذي يجعل من نظرية الفصل عنوانا للاتفاق وعنوانا للاختلاف في الوقت نفسه؟ تتداخل هنا العوامل الأمنية، مع العوامل السياسية، مع العوامل الايديولوجية، وهذا ما سنحاول هنا شرحه بايجاز شديد.

الدوافع الأمنية برزت نظرية الفصل أول ما برزت عام 1995، أيام حكومة اسحق رابين، وفي ظل اتفاقات أوسلو، وذلك بعد العملية الفدائية الكبيرة عند مفرق قرية بيت ليد، والتي قتل وجرح فيها عدد كبير من الاسرائيليين. يومها أمر رابين، متأثرا بهزة العملية، بتشكيل فريق أمني يدرس خطة للفصل بين الفلسطينيين والاسرائيليين، وبشكل يؤدي الى عدم تكرار عمليات فدائية مماثلة، واوكل هذه المهمة الى وزير الأمن (الشرطة) موشي شاحال.

وتبرز نظرية الفصل الآن، بعد العملية الفدائية الأخيرة في منتجع نتانيا قرب تل أبيب، والتي قتل فيها 21 شخصا 19 منهم من المهاجرين الروس.

ومن هذا يتضح الدافع الأمني الذي يحرك التفكير في نظرية الفصل، ولذلك فان الخطط التي وضعت للفصل، كانت في كل مرة خططا أمنية، تتلخص بجدار فاصل، وبنقاط حراسة بشرية وأخرى اليكترونية، وبمراكز دخول محددة للأشخاص والسيارات تخضع للتفتيش الدقيق. ولكن ما أن يبدأ البحث بالأمن حتى تطل العوامل السياسية لتفرض نفسها، والسؤال الأول هنا: أين نضع حائط الفصل، هل نضعه عند حدود سيادة الدولة، أي عند الخط الأخضر كما يسميه الاسرائيليون، وهو خط حدود يوم الرابع من يونيو (حزيران) 1967؟ أم نضعه عند المواقع التي تريد اسرائيل انتزاعها من الفلسطينيين وضمها الى دولة اسرائيل في التسوية السياسية التي يتطلعون اليها؟ وما أن يطرح هذا السؤال نفسه حتى تبرز مشكلات عديدة، كبيرة وخطيرة، تتجاوز الأمن الى السياسة العليا، وتكتشف أن ما يسمى اجراءات أمنية قد يهدد مصير عملية التسوية السياسية التي ينخرط فيها الاسرائيليون والفلسطينيون.

هنا تبرز مشكلة مدينة القدس التي تريد اسرائيل ضمها اليها، وهي تحتوي بداخلها على سكانها العرب الذين يوازي عددهم السكان الاسرائيليين، فهل ينطبق خط الفصل عليهم أم لا؟ وعند الفصل هل يتم قطع صلة سكان الضفة الغربية بالقدس وبالصلاة في المسجد الأقصى؟

وهنا تبرز أيضا مشكلة المستوطنات، والتي تعلن اسرائيل بكل اتجاهاتها (العمل والليكود) أنها لن تفكك، وستضم الى اسرائيل بغالبيتها، فهل يتم رسم خط الفصل بحيث يحتوي بداخله هذه المستوطنات؟ واذا تم ذلك فكيف سيكون رد فعل الفلسطينيين، وكيف سيكون رد فعل المجتمع الدولي؟ ثم أن خط الفصل حين ينطلق من الدوافع الأمنية لا ينسجم بالضرورة مع التطلع الى توسيع اطاره ليشمل القدس والمستوطنات، فهل تتم التضحية بالعامل الأمني لصالح العامل السياسي؟

كل هذه الأسئلة طرحت نفسها على العقل السياسي الاسرائيلي حين بدأ التفكير في موضوع الفصل، واضيفت اليه آنذاك عوامل أخرى تتعلق بعملية التسوية السياسية كما كانت مطروحة في العام .1995 في ذلك العام كان مناخ الحماس للتسوية كبيرا، وكانت النظرية تتحدث عن تعاون اقتصادي فلسطيني ـ اسرائيلي يشكل الداعم الرئيسي لنجاح عملية التسوية، بينما يطرح الفصل سؤالا حول مصير هذا التعاون الاقتصادي، وكيف يمكن أن يستمر في ظل الفصل. وهنا برزت نظريتان:

النظرية الأميركية التي لم تعارض انشاء خط الفصل لأسباب أمنية، ولكنها طلبت مراعاة أن لا يؤدي ذلك الى الفصل الاقتصادي، وكانت هذه هي الملاحظة الجوهرية للخبراء الأميركيين الذين تجولوا مع الوزير شاحال، والذي شرح لهم مواقع خط الفصل وأسلوب عمله وكلفة بنائه.

النظرية الاسرائيلية، وكانت آنذاك مقبولة من المفاوض الفلسطيني، ومدعومة بقوة من وزير الخارجية شمعون بيريس صاحب نظرية الاقتصاد الشرق أوسطي، ومن بنودها انشاء مناطق صناعية مشتركة، عند نقاط التماس في الضفة الغربية وقطاع غزة، بحيث يأتي العمال الفلسطينيون بأجورهم المنخفضة، ليعملوا في فروع للمصانع الاسرائيلية، ويتحقق بذلك التعاون الاقتصادي والفصل الأمني، وحسب تعبير بيريس آنذاك «بدل أن يأتوا الينا سنذهب نحن اليهم، ونتغلب بذلك على المشكلة الأمنية».

وحين تجمعت كل هذه الأسئلة السياسية فوق بعضها بعضا، وحين برزت الكلفة المالية العالية لانشاء حائط الفصل، وحين برزت أيضا التجربة العملية التي مورست في قطاع غزة، حيث تم انشاء خط فصل الىكتروني، كان الفلسطينيون يتسلون باختراقه يوميا وتخريب منشآته، ضعف حماس اسحق رابين للفكرة، وطويت صفحتها، ودخلت المشاريع المكتوبة الى أدراج المكاتب. وقبل أيام استعادت الصحافة الاسرائيلية مع موشي شاحال خطته للفصل (هآرتس 17 ـ 6 ـ 2001)، فاعترف بأن نقطة الضعف في الخطة كانت طلب رابين عدم المس بالمستوطنات، واعترف أيضا بأن ايهود باراك استدعاه بعد أن تسلم السلطة خلفا لنتنياهو، لعرض خطته للفصل أمام اجتماع للمجلس الوزاري الأمني المصغر، ولكن باراك بدا أثناء النقاش غير متحمس لها، وحين سأله عن السبب أجابه أن وزارة المالية لا تملك امكانية التمويل، حتى أن شاحال انتقد باراك قائلا: هكذا كان باراك، يجري نقاشا ويؤجله، يبدأ ولا ينتهي.

الحوار يتجدد تجدد الحوار السياسي الاسرائيلي حول خطة الفصل، بعد عملية تل ابيب الفدائية، واكتسى الحوار هذه المرة حلة جديدة.

ميرون بنفينيستي الباحث المعروف في الشؤون الفلسطينية، والذي كان مسؤولا مدنيا عن الضفة الغربية، كتب يقول (هآرتس 7 ـ 6 ـ 2001) ان «خطة الفصل التي تعود لتطرح بشكل اوتوماتيكي كلما حدثت عملية فدائية... تملأ تفاصيلها ملفات ضخمة... الا أن أية واحدة منها لم تطبق، هي خطة جوفاء وليست عملية أو مجدية»، ثم يتهم المسؤولين الاسرائيليين فيقول «كل فكرة الفصل هي تهدئة للجماهير الغاضبة، واستخدامها محدود لفترة قصيرة».

وربما كان سبب هذا النقد القاسي، معرفة الكاتب، بأن وزير الدفاع بنيامين بن اليعازر، والذي يحب أن يناديه الجميع باسمه الأصلي «فؤاد»، قد أعد خطة جديدة للفصل بالتعاون مع وزير الأمن الداخلي عوزي لانداو، وعرضت الخطة على رئيس الوزراء آرييل شارون يوم 6 ـ 6 ـ .2001 تتضمن الخطة كما في كل مرة:

ـ قطاع فصل بعرض مئات الأمتار ، يكون بمثابة منطقة عسكرية مغلقة، ويمنع الدخول اليه بتاتا، ويمتد على طول الخط الأخضر.

ـ دوريات راجلة على طول الخط الأخضر.

ـ كلاب حراسة.

ـ أجهزة اليكترونية (كاميرات) وأجهزة رادار.

ـ جدار اليكتروني يوضع فقط في الأماكن الحساسة قرب المستوطنات.

تبلغ كلفة هذا الخط ملياري شيكل، ويصر رئيس الوزراء شارون على أن لا يشمل الفصل اقامة جدار، وذلك من أجل عدم ترك الانطباع بأن اسرائيل توافق على خط 1967 كخط حدودي. وبعد أن تمت مناقشة الخطة ساد انطباع لدى الجميع بأنهم سيبدأون في تنفيذها فورا.

ونقلت يديعوت أحرونوت (7 ـ 6 ـ 2001) عن المناقشين قولهم «سئمنا من حقيقة أننا في كل مرة، بعد موجة عمليات، نبدأ بالحديث عن خط التماس، وبعد ذلك ننسى» ان خط الفصل المقترح سيشمل بداخله المستوطنات، وهناك في اسرائيل من يرفض ذلك ويعتقد أنه «ليس ثمة امكانية لفصل حقيقي من دون اخلاء كبير للمستوطنات الموجودة خارج الخط الأخضر»، ولكن اليمين المسيطر على السلطة الآن يرفض هذا الرأي، ويطرح مقابله رأيا آخر يعتبر المستوطنات «جزءا من المصالح الأمنية لاسرائيل»، حتى أن رئيس الأركان الجنرال شاؤول موفاز يعرف الأمن الاسرائيلي بأنه «القدرة على حماية المستوطنات والمستوطنين»، وينشأ بذلك انقسام حاد في الرأي بين الحمائم والصقور، بين اليمين واليسار، بين المتدينين والعلمانيين» حسب وصف مئير شتيغليتس (يديعوت أحرونوت 12 ـ 6 ـ 2001).

موشيه أرينز يعارض الفصل (هآرتس 12 ـ 6 ـ 2001) من منطلقات أخرى تتعلق بمستقبل العلاقة مع الفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة، كما تتعلق بالعلاقة مع الفلسطينيين داخل دولة اسرائيل، فيقول حول القضية الأولى «اذا ما ساد السلام في هذه المنطقة في يوم من الأيام فسيتعين على اليهود والفلسطينيين أن يتعلموا كيف يعيشون معا دون أن يستخدموا العنف... ووضع الحواجز بين اليهود والفلسطينيين لن يجدي نفعا». ويقول حول القضية الثانية «ان المبادرين للفصل ينسون أن أكثر من مليون من المواطنين الفلسطينيين يعيشون داخل حدود دولة اسرائيل، ولا سبيل الى فصلهم عن المواطنين اليهود».

ويمكن أن نورد هنا سيلا من نظريات الفصل أحادي الجانب، نظرية تطلب الفصل بين اسرائيل والضفة الغربية، ونظرية تطلب الفصل بين الضفة الغربية والأردن، ونظرية تطلب الفصل بين مناطق (آ) الخاضعة لسيطرة الفلسطينيين الكاملة، ومناطق (ب) الخاضعة لسيطرة اسرائيل الأمنية، ونظرية تطالب بالفصل بين الطرق، فهذه طرق للاسرائيليين وتلك طرق للفلسطينيين. ويقدم هذه النظريات سياسيون من اليسار (عضو الكنيست رومان برونفي من المهاجرين الروس)، وسياسيون من اليمين (عضو الكنيست ميخائيل ايتان من الليكود)، وسياسيون من حركة السلام الآن (البروفيسور عميرام غولدبلوم)، وآخرون وآخرون، وكل يشرح فكرته ويدافع عنها ويقول انها الأفضل، الى أن يبرز من بين المتحاورين من يقول «ان الفصل هو انسحاب مخجل سيتحول الى فشل استراتيجي»، أو من يقول «الانسحاب أحادي الجانب يمكن أن يرتدي صورة الخنوع». أما أصحاب نظرية فصل الطرق فانهم يواجهون انتقادات من نوع آخر، فهناك من ينظر الى هذه الطرق على أنها «حلقة من حلقات التمييز العنصري بين الاسرائيليين والفلسطينيين»، على غرار ما كان يحدث في جنوب افريقيا، ويتحدث هؤلاء المنتقدون ساخرين وقائلين: اليوم تتحدثون عن فصل الطرق، وغدا ستتحدثون عن فصل الشاحنات، فحين تفصلون الطرق كيف سيتم نقل البضائع؟ ستنشئون نقاط تبادل بين الشاحنات الاسرائيلية والفلسطينية، وهكذا ستكر المسبحة الى ما لا نهاية. ويعلق الكاتب ليلي غليلي على سيل هذه الخطط فيقول «كل هذه الخطط عينة تمثيلية لخطة الفصل التي يغص بها السوق الاسرائيلي، وجزء من هذه الخطط يتدحرج حتى أعتاب شارون، الذي لا يرفض أي واحدة منها ولكنه لا يرد عليها، وفي كل الأحوال فان خطة الفصل أحادي الجانب التي كانت مصطلحا هامشيا، تكتسب الآن موقفا ثابتا في الكينونة السياسية الجديدة».

ان جوهر هذا التفكير الاسرائيلي، سواء وجد طريقه الى التطبيق أم لا، هو النزعة التي تبحث عن الحل للمشكلات القائمة، من خلال تحقيق ما ترغب به اسرائيل فقط، مع تجاهل كامل لرغبات ومطالب الطرف الآخر في الصراع.

ان المجتمع الاسرائيلي يواجه في الصراع مع الفلسطينيين أسئلة كبيرة، وجودية ومصيرية، وبدلا من أن يتجه لبحثها ودرسها ومحاولة تقديم أجوبة واقعية عليها، ينغلق على نفسه، ويتجه باحثا عن حلول تعفيه من الاجابة على الأسئلة. ان احساس «الجيتو» المتجذر في النفوس، يطل هنا من جديد ساعيا الى احاطة اسرائيل بسور كبير، وتحويلها الى «جيتو» ضخم، تحت ستار شعار الفصل والانسحاب أحادي الجانب نحو تخوم جدار حجري أو اليكتروني.

ومرة أخرى يتحول الجدل الاسرائيلي في مواجهة الانتفاضة الفلسطينية، الى حالة يصح فيها التساؤل: هل تبحث اسرائيل عن حلول لمشكلاتها أم أنها تتجه نحو التدمير الذاتي؟