الفصحى ضحية نقد العقل

TT

«انك لا تبصر الحق من الباطل ما دمت مغلوبا» الجاحظ بعد ان توحد العرب على الكتابة بالفصحى، واصبحت مكاتباتهم الرسمية وجرائدهم ومؤلفاتهم وخطبهم واذاعة اخبارهم لا تتم الا بها، وبات من يبتغي الترفع عن السوقية في خطابه يقترب منها، في مثل هذه المرحلة يتقدم الجابري (الساعي لنقد العقل العربي)، لتشريحها باعتبارها اداة وقالبا يتشكل فيه الفكر، غير ان تشريحاته اللغوية تكشف عن بدائية الفصحى وصحراويتها وانعزالها، واذا بها (في نظره) لغة لا تخرج عن حياة الاعرابي وخشونة البداوة، ولا تملك اسماء الاشياء الطبيعية والصناعية ولا انواع المفاهيم النظرية، ولا تنقل الينا اسماء الادوات وانواع العلاقات التي شهدتها مجتمعاتها. ثم يعتبرها لغة عصية على التطور ظلت منذ اربعة عشر قرنا على حالها، تتخفى وراء موسيقيتها بفائض من الالفاظ لتغطي فقر المعنى، وبمقارنتها باللغات الآرية تبدو لغة عاجزة النطق بالاحكام، ناهيك من قائمة من الاتهامات تتعلق بعلوم الالسنيات، ثم ينتهي الى القول بفقر وضحالة ونقص التصور الذي تصنعه هذه اللغة حول الكون والحياة والانسان. ومن خلال هذه الاوصاف التبخيسية يصدر احكامه على العقل العربي. ورغم ان جورج طرابيشي في «اشكاليات العقل العربي» كشف زيف هذه الاتهامات ببراعة فائقة، الا انها تتكرر على لسان آخرين وبأشكال مختلفة بدعوى العلمية ومواكبة تطور البحوث والدراسات.

واذا كان الجابري (ناقد العقل العربي) مارس تبخيس الفصحى بتشريحها، فإن اركون (ناقد العقل الاسلامي) يمارس ذلك من خلال اثارة نعرة المغاربية ضد المشرقية والبربرية ضد العربية، فرغم انه يبدي اعجابه بالنموذج اليعقوبي الذي وحد كل الاقاليم الفرنسية المختلفة في لغاتها ولهجاتها حول العاصمة باريس، والذي انتهى بذلك الى تهميش لغة البريتاني والباسكيين والكوسكيكيين لصالح اللغة الفرنسية، الا انه يرفض ان تمارس العربية هذا الدور في المغرب العربي، ويطرح تساؤلاته الاستنكارية: هل ينبغي ان نقبل بالأمر الواقع الحاصل تاريخيا وسياسيا والذي قلص اللغة والثقافة البربرية الى مجرد بقايا هامشية؟ ام ينبغي ان نعترف بالخصوبة الفكرية والثقافية للتعددية اللغوية، مع الاعتبار ان هذه التعددية لن تؤثر اطلاقا على الوحدة الوطنية؟ ثم يشير الى مشكلة الازدواجية اللغوية التي تفصل بين الفصحى وبين اللغات المحكية واللهجات، والى الخسارة اللغوية الكبيرة التي تكمن في انقراض اللهجات واللغات المحكية ما قبل الفصحى، ثم يستغرب اختيار اللغة العربية وثقافتها كمقومات للهوية وكأدوات للبناء الوطني في الدول المغاربية، فهذا الاختيار خلق حالة تبعية للمشرق بعد الاستقلال.

ان الجهود التي يبذلها خصوم الفصحى للتقليل من قيمتها او لالغاء مركزيتها وهيمنتها على العقل العربي والاسلامي (نقول هذه الجهود)، لا علاقة لها بالتقدم والتطور والتنوير، وهي لا تجد تفسيرا لدينا سوى ما اشار اليه د. محمد حسين، من انها ارادة كولونالية تتحين الفرص للاجهاز على الفصحى، باعتبار انها احد مقومات الوحدة بين العرب والمسلمين.

ورغم تقديري الشديد لكثير من اعمال المفكرين المغاربيين المشار اليهما (وبالاخص اركون) على ما فيها من ملاحظات وتحفظات، الا انهما مطالبان بأن يفسرا لنا سر استمرار كثير من الشعوب الآسيوية (الصين واليابان والهند) في استخدام لغاتها وحروفها من دون ان يكون ذلك عائقا للتنوير او التطور.