العروبة .. أقطارها وحظوظها

TT

إن حظي كدقيق فوق شوك نثروه ثم قالوا لحفاة يوم ريح: اجمعوه
صعب الأمر عليهم ثم قالوا:

هذا من أشقاه ربي كيف أنتم تسعدوه استشهدت بالأبيات أعلاه ذات مناسبة قريبة ونسبتها إلى شاعر عربي لأني بالفعل ـ وليس بالتجاهل ـ لم أتذكر وقتها اسم ذلك الشاعر، فالذاكرة كالأحصنة تحرن أحياناً، وتمتنع عن العمل، كما يمتنع الحصان عن السير إذا تراكم عليه الإرهاق.

وبعد أيام من نشرها، جاءني الزميل عماد الدين دياب، معاتباً ومذكراً بعادة شائعة، فنحن ننسب الرجل إلى قطره وبلدته، بل ونسمي أمه وأبيه حين يقوم بالأعمال الشائنة، اما في المفاخر، فإننا نكتفي بنسبته إلى العروبة، فنقول الشاعر العربي والفنان العربي والنجم العربي وما إلى ذلك من صفات تتسربل بالمبالغات.

وأظن أن هذا الأمر كان يرتبط بمصر وحدها في البداية، فقد ظللنا أكثر من نصف قرن نتحدث عن سينما عربية ولم يكن هناك أية صناعة سينما إلا في أرض الكنانة، أما الذي صحح السياق هذه الأيام، فبعض الفضائيات التي صارت تستخدم تعبير «أفلام مصرية» لتمييزها عن بضعة أفلام سورية وعدة أفلام مغاربية أنتجت بتمويل فرنسي.

وفي الجزيرة العربية، حيث العرب الاقحاح الذين قال الأمير خالد الفيصل بلسانهم أثناء حرب الخليج أهزوجة «حنا العرب..» نادراً ما ينسب الشاعر والفنان إلى الأمة، بل إلى القطر، فصفة مطرب سعودي مثلا تلحق دائماً باسم محمد عبده وقبله طلال مداح، وهذه مفارقة جديرة بالتأمل تفسرها التطورات السياسية، قبل علم الأنساب والجغرافيا.

وخارج إطار مصر والسينما المصرية، ينسب البطل والفنان إلى قطره غالباً قبل أمته، فتجد صفة العداء المغربي إلى جانب اسم سعيد عويطة، وكذلك الأمر مع نوال المتوكل، فإذا جاءت سيرة العداءة السورية غادة شعاع وجدتها تقترن بالعروبة في الأغلب الأعم، فهل المبالغة في الدور القومي تلعب دورها في هذا المجال.

لا أظن ذلك، فالعراق لا يقل مبالغة في القومية عن سورية، ومع ذلك فنادراً ما تجد صفة الشاعر العربي تسبق صفة الشاعر العراقي أثناء الحديث عن البياتي والسياب والجواهري ونازك الملائكة، والأمر ذاته يتكرر مع الروائيين الجزائريين، فأحلام مستغانمي على شهرتها نادراً ما يلحقون اسمها بصفة الروائية العربية، وكذلك الحال مع الأكثر شهرة رشيد بوجدرة والطاهر وطار.

وفي دولة لم تشهد مداً قومياً متطرفاً مثل الإمارات، نجد اسم بطل سباق السيارات محمد سليم، يرتبط دوماً بصفة البطل العربي، فما تفسير هذه الظاهرة المزاجية في اختيار النسبة بين القطرية والقومية؟

وفي حالة الشاعر الذي ذكرنا بهذه الظاهرة، وهو السوداني ادريس جماع صاحب أبيات «إن حظي..»، فإن المسألة لم تكن مطروحة بهذا التعقيد، لأنه عاش فترة المد القومي في القاهرة وغنى كثيراً للعروبة ثم انتهى في مستشفى المجانين في بيروت، وهذا تطور طبيعي، فمن كان قومياً متحمساً وشاهد ما جرى للعرب ولم يجن لا بد أن تشك بأحاسيسه، وماذا كان يخسر ـ رحمه الله ـ لو قال في استهلال القصيدة: «حظ قومي..» إلى آخر معزوفة الشقاء التي تصلح لرثاء الحظ الفردي، والجماعي، والجهوي أيضاً، فكلنا في الحظ.. وفي الهمّ شرق.