عندما تختلّ المعايير....

TT

عندما كانت السنة اللهب تلتهم الدكاكين والسيارات في مدينة برادفورد بشمال انجلترا، اثر اندلاع اشتباكات عنصرية عقبتها صدامات مع الشرطة، كان اهل احياء شمال لندن يخوضون معركة من نوع آخر.

بطل هذه المعركة كان شابا أسود هو نجم كرة القدم سول كامبل، الا ان الجانب العنصري ظل ـ ظاهرياً على الاقل ـ بعيدا كل البعد عنها. فقد اختار كامبل، الذي نشأ وترعرع في صفوف نادي توتنهام هوتسبر ان ينتقل الى غريمه المحلي التقليدي اللدود الأرسنال لقاء «حفنة» من ملايين الجنيهات تذهب الى جيبه حلالاً زلالاً لأن عقده مع توتنهام انتهى. وهكذا.. تبعاً لـ«نظام بوسمان» -المفروض اوروبياً- صار اللاعب حراً في اختيار النادي الذي يلبي له طلباته المالية. ومع ان ناديي برشلونة الاسباني وانترناسيونالي ميلانو الايطالي رُشحا للتعاقد معه، ارتكب كامبل، في مفهوم «التوتنهاميين» الخطيئة المميتة... فاختار تقمص فانلة «المدفعجية» الحمراء، وهو ادرى الناس بالعداوة المتأصلة بين الناديين الكبيرين اللذين يقع مقراهما على بعد كيلومترات معدودة في طريق الـ«سيفن سيسترز» (طريق الاخوات السبع).

حالة كامبل ليست الاولى من نوعها ولن تكون الاخيرة. ففي لندن حصلت حالات انتقال كثيرة بين الاندية اللندنية المتفاوتة الاحجام. غير ان حالات الانتقال من الارسنال الى توتنهام وبالعكس قليلة جداً، لا سيما ان الناديين اولاً من حي واحد تقريباً، وثانياً لأنهما من حجم واحد، وثالثاً لانهما يتمتعان بنسبة تأييد متساوية. ولذا فثمة نوع خاص جداً من الولاء والعداء الموروثين يوازي الولاء المطلق والعداء الكيدي المألوفين في مدينة غلاسغو الاسكوتلندية بين الرينجرز والسلتيك، ومدينة ليفربول بين ليفربول وايفرتون، ومدينة مانشستر بين «يونايتد» و«سيتي»...وكلها مدن اصغر حجماً واشد محليةً من لندن.

لماذا اختار كامبل ركوب هذا المركب الخشن وهو الذي يعرف مغبّة قراره؟ لعله فعل لأنه ـ او بالاصح مدير اعماله ـ أدرك ان المفاهيم في عالم الكرة تغيّرت. بل لقد تغيّرت قيم ومُثُل عديدة في المجتمع، الذي يشكل عالم كرة القدم جزءاً بسيطاً منه.

في الماضي كانت كرة القدم مجرد رياضة بريئة يمارسها الناس على اساس انها رياضة. وكم من نابغة كروي في انجلترا وخارج انجلترا عاش ومات فقيراً. اما الآن فقد تحوّلت الى «تجارة» بالمفهوم السلبي لهذه الكلمة. اصبحت مجالاً للاستثمار والربح والجشع من دون إقامة اي وزن لمشاعر المشجّع العادي المسكين الذي يبحّ حنجرته كل اسبوع هاتفاً لناديه المفضل او نجمه المفضل، مع العلم انه في كثير من الحالات يزيد مدخول النجم المدلل في اسبوع..عن دخل المشجع العبيط في سنة. أضف الى ما سبق ان المتفرج يشجع ناديه المحترم مجاناً لوجه الله...بينما النجم يناور ويداور وراء الكواليس عند اقتراب موعد انتهاء عقده للحصول على احسن صفقة له في اي مكان.

ولا تقف المشكلة هنا، اذ ان البعض يجد للاعب بعض العذر في الطمع. ففي دنيا الماديّات على اللاعب ان يؤمن مستقبله في سوق العرض والطلب، لأن حياته «المهنية» في الملاعب قصيرة تتراوح عادة بين 10 سنوات و12 سنة. وبالتالي، عليه كسب اقصى ما يستطيع كسبه خلال هذه الفترة القصيرة لأنها فترة الانتاج الوحيدة الجدية في حياته.

اما المشكلة الاكبر فتكمن في الاندية التي «تسرق» مشجعيها وتتاجر بهم عملياً، تحت عناوين براقة مثل «التسويق» و«الترويج» و«الاستثمار» و«تنويع مصادر الدخل» وما الى هنالك. والحقيقة ان هذه الاندية في ايام «العولمة» التي نعيش امست ـ اكثر من اي وقت مضى ـ شركات تجارية جشعة همها الوحيد حصد المال لمالكي اسهمها. لكنها بخلاف الشركات التجارية تلوّح - بكل صفاقة - بشعارات الولاء القبلي..كألوان قمصانها، التي تغيّر تصميمها موسمياً امعاناً في النهب، كما لو كانت رداء احمر يلوّح به امام ثور محكوم عليه بالاعدام في حلبة مصارعة ثيران اسبانية.

نعم، مع مزيد الأسف، الرياضة كما عرفناها نحن..الجيل الذي ولد في منتصف القرن الماضي انتهت. لقد ماتت ولن تعود.

صارت هناك اندية «هوكي جليد» في اريزونا وفلوريدا...تلعب في ملاعب مسقوفة مبردة..وفي الخارج الحرارة 45 درجة مئوية!! صارت الاندية ذاتها «شنطة» يحملها مشتروها حيث شاؤوا، فينتقل نادي كرة سلة عريق في نيويورك الى لوس انجليس، ونادي كرة قدم لا يقل عراقة من سانت لويس الى فينيكس... هلم جراً..

صار مليونيرات كرة المضرب ابطالاً اولمبيين، بعدما خسرت الفكرة الاولمبية روحها...وأشرعت بحكم الواقع - والتلاعب ايضاً - ابوابها للمحترفين.

صارت حقوق البث التلفزيوني مصدر الدخل الرئيسي للاندية الرياضية. صارت قمصان الرياضيين واجسادهم لافتات اعلانية.

صار الولاء للرياضة غباء ولجمهورها جهالة اين منها جهالة عمرو بن كلثوم..

0 0 0 هذا هو عالمنا اليوم. عالم اختلال الموازين وانهيار المعادلات والكذب والتكاذب والقفز في المجهول. أفنستغرب بعد هذا كله ان يكون ذلك الفضاء الاجتماعي خارج حلبات الرياضة مختلفاً عمّا يدور فيها؟

نظرة الى المجتمع السياسي الدولي تبدو كافية للشك بمعظم المبادئ التي تعلّمناها عبر السنين. لكن اذا امعنّا النظر أكثر قد نفقد كل ما تبقى لنا من مسلّمات مطمئنة الى مستقبل «اشرف علم في الوجود»..كما قال الطيب الذكر افلاطون. فالسياسة، مثلها مثل كل المجالات الاخرى من مجتمعاتنا المتحوّلة من دون ان تدري في اي اتجاه تتحوّل، فقدت الكثير من القيم و«الخطوط الحمراء» التي ابقت لها ـ على الاقل في قلة من المجتمعات ـ نظرة احترام. ولا شك ان «احادية» النفوذ، الناجمة عن انعدام التوازن واختفاء التضاد والقدرة على المعارضة او الاعتراض اسهمت اسهاماً كبيراً في الوصول الى هذه الحالة من «اللامنطق» في معالجة الأمور. كذلك اسهم فيها طغيان المادة على اي اعتبارات اخرى، وبخاصة الشراء المباشر للنفوذ، وتسخير القدرة المادية في السيطرة على وسائل التأثير في الرأي العام، والاستثمار في تقنيات الاتصال واحتكار تطويرها ومن ثم احتكار استخدامها. هل هناك حاجة لسرد امثلة؟

انها اكثر من ان تحصى، بدءاً من عقاقير معالجة الإيدز، انتهاء بمقررات «قمة البيئة في كيوتو». ولكن بما ان الجمرة لا تحرق إلا موضعها، استوقفتني خلال الاسبوع الماضي حالتان شرق اوسطيتان متصلتان بالصراع العربي الاسرائيلي.

فرئيس وزراء اسرائيل أرييل شارون، بعد جولته التحريضية في اميركا واوروبا الغربية، اعلن بالأمس بالفم الملآن، ومن دون ان يخشى عواقب، اعتزامه زرع المستعمرات في هضبة الجولان. ورغم مرور ساعات عدة على كلامه «الحربي» لم نسمع عن سحب التفويض الاميركي الاقليمي له في مسائل الحرب والسلم..

ثم...هناك محطة فضائية عربية، من دولة لم تطبّع بعد مع اسرائيل، ردّدت قبل ايام في نشرات اخبارها تقريراً عن رسم عمره 700 سنة في احدى كنائس ايطاليا يسيء الى الرسول (صلّى الله عليه وسلّم). ولكن في نشرة الاخبار ذاتها شارك ميكروفون المحطة ـ عليه شعارها الصريح ـ في مقابلة صحافية على درج قصر الإليزيه بباريس مع مرافق لشارون اثناء زيارته الاخيرة لفرنسا.. هاجم خلالها المرافق بلغة الضاد وبفصاحة يحسده عليها مذيعو معظم الفضائيات العربية، فرنسا على «تأييدها» للعرب و«عدائها» لاسرائيل.. والعياذ بالله.