وزراء بورقيبة أمام أنفسهم وأمام التاريخ

TT

خلال الأشهر الأخيرة وبفضل مؤسسة البحث العلمي والمعلومات التي يديرها المؤرخ التونسي عبد الجليل التميمي، أتيح لقسم من التونسيين، المثقفين منهم بالخصوص، الاستماع الى شهادات وزراء قدامى عملوا جنبا الى جنب مع الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة خلال فترة حكمه التي امتدت أزيد من ثلاثين عاما، والبعض من هؤلاء كانوا من المقربين منه، بل محل ثقة لديه مثل السيد محمد الصياح الذي شغل عدة مناصب وزارية رفيعة، وكان الرجل القوي للحزب الحاكم، والمسؤول الأول عن تدوين تاريخ الحركة الوطنية التونسية، وقد توبعت هذه الشهادات التي قدمها هؤلاء السادة الوزراء الذين اختارهم بورقيبة ليكونوا الى جانبه في فترة ترسيخ أسس الدولة التونسية الفتية رغم انهم كانوا في سن الشباب وكانت مساهمتهم في الكفاح الوطني جد محدودة، باهتمام كبير نظرا لاهميتها على مستويات عدة اذ انها تضيء جوانب معتمة من تاريخ تونس الحديث، وتقدم قراءات مغايرة وجديدة لاحداث ووقائع شهدتها البلاد خلال مرحلة ما بعد الاستقلال مثل الغاء الحكم الملكي وحرب بنزرت واغتيال المناضل التونسي الكبير صالح بن يوسف في فرانكفورت خلال صيف 1961 وتجربة التعاضد الاشتراكية ومحاكمة أحمد بن صالح الدماغ المنكر لهذه التجربة والوحدة التونسية ـ الليبية التي لم تدم غير ساعات قليلة والقطيعة بين النظام والاتحاد العام التونسي للشغل مطلع عام 1977 التي أسفرت عن مئات من القتلى والجرحى، وحوادث قفصة الدموية في 1980 وانتفاضة الخبز في يناير (كانون الثاني) 1983.

ورغم ان هذه الشهادات جاءت شفوية، فإنها قادرة رغم ذلك على ان تملأ فراغا هائلا ظل تاريخ تونس المعاصر يعاني منه حتى هذه الساعة. فقد مضى رفقاء بورقيبة الاوائل من أمثال المنجي سليم وصالح بن يوسف ومحمود الماطري والباهي الادغم والصادق المقدم والطيب المهيري والهادي نويرة دون ان يخلفوا ما يمكن ان يعيننا على فهم اطوار البلاد في فترة الاستعمار بالخصوص، اما الآثار التي خلفها مناضلون آخرون من أمثال الزعيم النقابي الحبيب عاشور فناقصة ومبتورة ولا تفي بالحاجة، لذا كان من المفيد ان يتكلم وزراء بورقيبة القدامى بعد هذا الصمت الطويل حتى يتيسر لنا الحصول على ما يمكن ان يساعدنا على فهم خفايا التاريخ التونسي خلال العقود الاربعة الاخيرة من القرن العشرين.

غير ان اللافت للانتباه في هذه الشهادات هو ان اصحابها يحاولون قدر المستطاع وبدرجات متفاوتة التملص من مسؤولياتهم من اخطاء فادحة ارتكبت على مستويات عدة سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية، بل ويبذل البعض منهم جهودا مضنية لاقناع الناس بأنهم كانوا ديمقراطيين وأن مسؤولية الاحداث الدموية والمحاكمات والاعتقالات التعسفية والتجاوزات القانونية تقع على عاتق غيرهم! فالسيد أحمد بن صالح مثلا العقل المفكر والمسير لتجربة التعاضد الاشتراكية والذي كان في يوم من الايام على رأس خمس وزارات اساسية في الدولة التونسية لا يزال مصرا منذ اربعين سنة على القول بأن التجربة المذكورة كانت رائدة ومفيدة لتونس في تلك الفترة وان انهيارها كان نتيجة مؤامرة دبرها ضده كبار الملاك وبورجوازية العاصمة.

من حق السيد أحمد بن صالح ان يقول ان تونس حققت خلال فترة التعاضد انجازات مهمة مثل تحديد النسل، ونشر التعليم، والاعتناء بالأرياف والمناطق النائية، ومن حقه ان يقول انه كان نزيها وصادقا وانه لم يستغل نفوذه الكبير في تلك الفترة لـ «ملء جيوبه» بأموال الدولة مثلما فعل آخرون ومن حقه أيضا ان يقول ان الجفاف الذي ضرب البلاد على مدى سنوات طويلة كان له بالمرصاد وانه كان كبش فداء وان بورقيبة ضحى به للابقاء على سلطته وعلى نفوذه وان مسؤولية فشل تلك التجربة تقع على عاتق النظام برمته وليس عليه وحده، كل هذا هو فيه على حق، ولكن لا بد ان يعترف ان تطبيق تلك التجربة تم بصفة عشوائية وبيروقراطية وان الرجال الذين اعتمد عليهم في تطبيقها عاثوا فسادا وتخريبا ونهبا وروعوا الشعب واستغلوا مناصبهم للحصول على المنافع الشخصية، ولا بد ان يعترف ايضا بأن البلاد باتت على حافة مجاعة مدمرة بسبب الاخطاء التي ارتكبت وان الفلاحين الصغار فقدوا الشيء القليل الذي كان يشدهم الى الأرض ففروا بجلودهم هاربين الى المدن لتمتلئ بهم وليتحولوا خلال عقد السبعينات والعقود التالية الى ظاهرة اجتماعية خطيرة لا تزال تعاني منها الدولة حتى هذه الساعة.

ومن جانبه، يحاول السيد الطاهر بلخوجة الذي شغل منصب مدير أواخر الستينات، وكان وزيراً للداخلية عام 1973 حتى عام 1978 أن ينزع عنه مسؤولية حملات القمع التي شنّت ضد مثقفي اليسار والمنظمات الماركسية، خصوصاً عقب انتفاضة 72 الطلابية. نحن لا ننكر على السيد الطاهر بلخوجة انه كان يعمل ضمن جهاز نظام برمته وأن منصبه الحسّاس كان يتطلب منه السهر على استقرار وأمن البلاد، وعلى مقاومة أعمال الشغب والفوضى وايضا التصدي لـ «الأيديولوجيات الهدامة» حسب تعبير وسائل الإعلام الرسمية. ولا بدّ أن نعترف أن الشيء الأول الذي يحمد للسيد الطاهر بلخوجة هو أنه خرج من الحكومة مطلع عام 1878 لأنه كان ضدّ حزب الاتحاد العام التونسي للشغل وقيادته مفضلا سياسة الحوار على سياسة العنف التي انساق إليها كل من السيد الهادي نويرة الوزير الأول آنذاك والسيد محمد الصياح الذي كان مديراً للحزب الحاكم. أما الشيء الثاني الذي يحمد له فهو اطلاقه لحرية الصحافة المعارضة خلال تلك الانتعاشة الديمقراطية القصيرة التي عاشتها تونس مطلع الثمانينات. مع ذلك، نحن نحبّذ أن يعتذر عن تلك التجاوزات التي حدثت خلال حملات القمع ضد اليسار واليساريين وأن يعترف بأن عمليات التعذيب الوحشية التي تعرض لها بعض المثقفين والطلبة ستظل نقطة سوداء في تاريخ تونس خلال مرحلة النظام البورقيبي.

ونحن لا نتردد في القول بأن السيد محمد الصياح هو واحد من أفضل رموز النخبة السياسية التونسية في مرحلة ما بعد الاستقلال وأنه سياسي قدير ووطني نزيه نجح في جميع المهام التي تقلّدها منجزاً مشاريع كبيرة لم تكن لتتحقق لولا سهره الدائب عليها. غير أن حبّه المفرط لبورقيبة أعماه وحوّله إلى منفذ طيّع حتى لتلك الأوامر التي أضرت بالبلاد وأودت بها إلى أزمات حادة وخطيرة خصوصا على مستوى الحريات العامة. والخطأ الكبير الذي لا يغفر للسيد محمد الصياح هو أنه حوّل الحزب الحاكم إلى جهاز ستاليني (نسبة إلى ستالين) يتحكم في الحياة السياسية للبلاد رافضا بشدة كل صوت معارض، محاولا في كل مرة التسلل إلى المنظمات الوطنية الأخرى لنسق استقلاليتها، وتحويلها إلى أجهزة خاضعة له خضوعاً تاماً. وقد سمح السيد محمد الصياح للميليشيات التي بعثها داخل الحزب بأن تعيث في الحياة السياسية للبلاد فساداً وتخريباً، وأن تنتفع مادياً من النفوذ الكبير الذي كانت تتمتع به، بل وان تعتدي بالعنف والضرب على كل من يتجرأ على رفض السير مع القطيع الكبير. ولا يمكن للسيد محمد الصياح أن ينكر مسؤوليته في الأحداث الدموية التي عرفتها البلاد مطلع عام 1978، اذ انه تزعّم التيار المتشدد الذي كان يطالب بضرورة ضرب الاتحاد العام التونسي للشغل بالقوة، ومحاكمة قيادته متهماً إياها بـ «الخيانة الوطنية» فقط لأنها رفضت صيغة الحزب الحاكم. وفي الاجتماعات العامة التي انعقدت قبل احداث «الخميس الاسود»، سمح السيد محمد الصياح لعناصر ميليشيات المتشددين بشهر اسلحتهم علنا مطالبين بالانتقام من الحبيب عاشور ورفاقه!.

والولاء الأعمى لبورقيبة جعل السيد محمد الصياح حين كلّف بتدوين تاريخ الحركة الوطنية يزيّف الوقائع والاحداث، ماحيا منها ما لم يكن أسد قرطاج العجوز يرغب في سماعه، أو تذكره، ملغيا ادوار مناضلين وزعماء وطنيين كانوا منافسين أو معارضين له، جاعلاً منه «البطل الأوحد» للنضال الوطني. لكأن تونس لم تعرف زعماء لا يقلون عنه أهمية ووطنية من أمثال الشيخ عبد العزيز الثعالبي والطاهر صفر وصالح بن يوسف ومحمود الماطري. وبتصرفاته هذه، ساهم السيد محمد الصياح مساهمة كبيرة في ترسيخ «عبادة الشخص» وفرضها على الشعب التونسي برمّته محوّلا بورقيبة إلى كائن معصوم من الخطأ! غير ان الولاء الأعمى لبورقيبة لم يكن من خاصيات السيد محمد الصياح وحده.

الآخرون أيضا بما في ذلك السادة أحمد بن صالح والطاهر بلخوجة ومحمد مزالي والهادي نويرة والباجي قائد السبسي والطاهر فيفة وغيرهم لم يكونوا يجرؤون على رفع اصواتهم أمامه وجميعهم كانوا يسعون إلى كسب ودّه ورضاه خوفاً على مناصبهم، ثم ان البعض من هؤلاء خصوصاً السادة الهادي نويرة ومحمد الصياح ومحمد مزالي طمعوا ذات يوم في خلافته لذا غضوا الطرف عن كل المساوئ والاخطاء جاعلين من هدف الخلافة الهدف الاسمى والاوحد لهم، كلّفهم ذلك ما كلفهم!.

وكانت الأزمة الصحية الخطيرة التي ألمّت ببورقيبة أواخر الستينات عقب الفشل الذريع الذي منيت به تجربة التعاضد الاشتراكية هي التي فتحت شهية البعض من وزرائه لخلافته. وهو نفسه ذكر لاحقاً في إحدى خطبه أن السيد أحمد المستيري طلب منه بإلحاح أن يعيّنه خليفة له في حين كان هو محمولاً على نقالة باتجاه الطائرة التي سوف تقلّه إلى سويسرا للتداوي!. وخلال السبعينات، ومع تقدم بورقيبة في السن، أصبحت خلافته عنصراً أساسياً في الحياة السياسية التونسية وبات التنافس من أجل الظفر بها على أشده الشيء الذي سبب للبلاد أزمات حادة وخطيرة. وعندما أصبح بورقيبة يسيّر شؤون الدولة وهو عاجز عن الوقوف على قدميه، اشتدّ الصراع على خلافته حتى إن البلاد أضحت على حافة كارثة. ومع ذلك، كان وزراء بورقيبة غافلين عن هذا الخطر الداهم، رافضين سماع أصوات التحذير التي كانت تتعالى من الداخل والخارج. وفي النهاية، خسروا المعركة، وظفر بالخلافة من لم يكن على القائمة المرشحة لذلك.

ما نتمناه الآن من وزراء بورقيبة الذين شاخوا وباتوا قريبين من دار الآخرة هو أن لا يكون الهدف من شهاداتهم الدفاع عن أنفسهم، ونزع المسؤوليات عنهم في ما حدث، وانما نقداً جذرياً وعميقاً للمرحلة البورقيبية، بفضائلها ومساوئها، وبنواقصها وامتيازاتها. عندئذ فقط يمكن أن يكونوا مفيدين وفي مستوى المسؤولية التاريخية المناطة بعهدتهم.