«متشائل» سورية في انتظار «ربيع دمشق»

TT

انه ليس ربيع براغ كما انه ليس قمع ياروزلسكي، فنحن بين بين، اننا في الوسط، في رقعة رمادية اللون، هكذا تحدث صادق جلال العظم احد المفكرين السوريين البارزين والمشاركين النشطين في حركة المجتمع المدني.

كما يوضح العظم، الذي تقاعد مؤخرا من تدريس الفلسفة الاوروبية الحديثة في جامعة دمشق، مشيرا الى رواية اميل حبيبي «المتشائل: الفلسطيني الذي اصبح مواطنا في اسرائيل ولم يصبح» قائلا «ان مفهوم «المتشائل» من المفاهيم المهمة التي منحها الأدب الفلسطيني الى هذا العالم». ويواصل العظم القول «ان حبيبي نحت كلمة جديدة في اللغة العربية مركبة من كلمتين، فلأنه غير قادر على فقدان الأمل فهو متفائل، ولكن شدة الظروف الراهنة تدفعه دفعا لان يكون متشائما ايضا، ومن هنا فان التشاؤل يعني انه لا يزال عندنا بعض الامل». ويردف «وكمتحركين لا بد لنا من امل في القدرة على تعديل الوضع الراهن، حتى لو كان بنسبة 30 في المائة نحو مزيد من تحقيق الديمقراطية واحترام حقوق المواطن والانسان والحريات المدنية. وما يساعدنا ان هياكل السلطة تشعر، بل وتعرف، انها تمر في ازمة، ولا مجال للتراجع نحو الأساليب القديمة، كما لا يمكن تجميد الاوضاع على حالها».

وهذا سبب اساسي في تسامح السلطات اول الامر مع حركة المجتمع المدني، كما انهم عندما تحركوا ضدها اتخذوا اجراءات ادارية فقط بدلا من شن حملة اعتقالات. ومن المظاهر الاساسية لهذه الحركة الحوارات السياسية العامة التي شاع تنظيمها في بيوت الناس في كافة ارجاء البلاد، والتي كانت ستغلق بلا رحمة ويلقى بالمشاركين فيها في السجون لو انها عقدت قبل بضع سنوات. واعلنت الحكومة في اواسط فبراير (شباط) من العام الحالي ان على منظمي هذه التجمعات التقدم بطلب للحصول على تراخيص تسمح بالتجمع قبل 15 يوما من عقدها، واعطاء تفاصيل حول مكان التجمع وحضوره وموضوع الحوار. ومع ذلك، لم يمسك الناس العاديون عن ارتياد هذه التجمعات والمساهمة في الانصات والحوارات الجارية فيها، وتحولت بعدها الى تجمعات خاصة من الاصدقاء والمعارف. ويعلق العظم على ذلك بقوله «بالنسبة لنا فان الطريقة التي تحركت بها السلطات ازاء التجمعات تعني تقدما مهما في التعامل مع النشاط المدني المستقل في سورية».

وفي مواجهة نشطاء حركة المجتمع المدني، تقول السلطات ان الحركة لا تمثل سوى اقلية ضيقة وغير ممثلة من المثقفين، وان هؤلاء «ادوات بيد القوى الغربية»، وان ما يطالبون به يهدد استقرار البلاد، ويذهبون الى حد القول ان هناك مجتمعاً مدنياً قائماً وناجزاً في سورية. كما تصر الحكومة على وجوب ايلاء التحديث الاقتصادي الاولوية اذ انه اداة تحقيق حياة افضل لجماهير الناس، واستبعاد الاصلاح السياسي.

فما الذي يريده نشطاء المجتمع المدني بالضبط؟ وما الذي يقصدونه بتعبير «المجتمع المدني»؟ وبماذا يردون على السلطات؟

يقول العظم «عندما يذكر تعبير المجتمع المدني في الغرب فان اول ما يتبادر الى الذهن هو النوادي والكنائس والجمعيات المدنية والنقابات المهنية وسواها». ويضيف «هذا لا شك يتضمن جزءا من معنى المجتمع المدني، وعلى ضوء ما نعتبره وفق منظورنا بالترف للمجتمع الرأسمالي الراهن في الغرب، يبدو طبيعيا بالنسبة لنا ان معنى المجتمع المدني ينبغي ان يتمحور عندهم حول اشياء مثل النوادي والمنظمات غير الحكومية التي تجمع بين الذوات المبعثرة وتقرب بين الناس. اما الذي نؤكد عليه نحن في المقابل بالنسبة لمعنى المجتمع المدني فيتلخص في اولوية المواطنة واحترام حقوق المواطن والانسان والمساواة امام القانون وحق المجتمع بمساءلة الحكم والسلطة، والقضاء المستقل وفصل السلطات، وسيادة القانون محل سيادة الأحكام العرفية، والانتخابات الشعبية النزيهة».

والى جانب تبني المثل الديمقراطية الاوروبية، تمتاز حركة المجتمع المدني ايضا بصبغة محلية قوية، كما يؤكد العظم. البرنامج الاصلاحي يعطي الأولوية لتقديم مفاهيم المواطنة التي تتجاوز الارتباطات الاثنية والمذهبية والعائلية والدينية التقليدية كما تبناها العثمانيون خلال القرن التاسع عشر، مثلا، وكان رائد هذا البرنامج محمد علي باشا في مصر. وكان الهدف من ذلك الرغبة في تحديث المنطقة لمواجهة الضغوطات التجارية والتقنية والعسكرية الصادرة عن اوروبا.

ويقول العظم «ان بداية هذا التوجه تعود الى البيروستريكا العثمانية او «التنظيمات». فانا اسمي ما فعله غورباتشوف بالتنظيمات الروسية، وما عمل به العثمانيون منذ عام 1820 بالبيروستريكا العثمانية»، ويتابع القول «اعتقد ان «التنظيمات» كانت بداية شيء ما يسمى المجتمع المدني، مقابل الشيء الذي اسميه انا وآخرون بالعربية المجتمع الاهلي حيث تسود العلاقات العضوية ويتأسس الولاء على الارتباطات الدينية والمذهبية والعائلية والقبلية ونحوها».

وبينما تأسس المجتمع المدني في اوروبا نتيجة مطالب الطبقة الوسطى «تولت الدولة ونخبها الحاكمة زمام الاصلاحات وجهود التحديث في الدولة العثمانية» حسبما يوضح العظم. ويتابع القول «يعد محمد علي باشا المثال الاهم هنا. وفي معظم الدول العربية، خاصة الدول المحورية منها مثل سورية والعراق ومصر، ظلت الدولة القوة الدافعة وراء التحديث، الذي كان معناه بالضرورة تفكيك المجتمع الاهلي اكثر فاكثر وبروز فكرة المواطنة والقومية. والفرق بيننا وبين اوروبا يكمن في ان الدولة عندنا تولت زمام التحديث الذي اعتبرته ضرورة حتمية للبقاء والاستمرار، بينما كان اتجاه التحديث عكسيا في اوروبا اذ رفعت الطبقة الوسطى لواءه». ويبدو ان نجاح الدولة في لعب هذا الدور كان لا بأس فيه. ويدرك العظم ان الولاءات التقليدية للمجتمع الاهلي تظل قوية، وان ثمة خطرا منها في حال ضعفت الدولة. وهنا يؤكد العظم ان «هذه نقطة محل خلاف وجدل في سورية، فالسلطات لا تفتأ تذكر الناشطين في سياق المجتمع المدني والديمقراطية وحقوق الانسان ونحوها ان هذه الولاءات يمكنها ان تفضي الى اوضاع تشابه تلك التي في السودان والجزائر ولبنان. ويستمر موضحا «حجتنا هنا تتلخص في اننا لا ننكر مدى قوة ولاءات ما قبل المجتمع المدني ومخاطر انفلاتها عن عقالها، لكننا نهدف الى تجاوزها بمحاولة تدعيم مظاهر حياتنا التي اصبحت شيئا يقارب المجتمع المدني، بحسب المفهوم الحديث للتعبير. بمعنى آخر، تلك المظاهر التي تؤكد ان المواطنة هي العنصر الحاسم».

ويحذر العظم قائلا «اننا اذا لم نحاول بالتعاون مع السلطات تجاوز ولاءات ما قبل المجتمع المدني باتجاه مجتمع مدني حقيقي، فما من امل يبقى لنا وسنظل دوما مجتمعا تمزقه القبلية والعشائرية والمذهبية الدينية وسواها. والطريق الوحيد لانقاذنا من براثن هذا الوضع العمل بدأب على تأسيس ما نقدر عليه من مظاهر المجتمع المدني».

غير ان السلطات من جانبها تؤكد على وجود مجتمع مدني ممثل من خلال هيئات عدة مثل احزاب الجبهة الوطنية والنقابات والمنظمات الشبابية والنسوية والجمعيات الاسلامية والمسيحية، رغم ادارة الدولة لكثير من تلك الهيئات. فهل تتوفر مبررات لوجود حركة المجتمع المدني الراهنة؟

يرد العظم قائلا «ان هذا من قبيل التشويش المتعمد، وبحسب محاججتهم يمكن اعتبار المجتمع القبلي مجتمعا مدنيا. انهم يفسدون هذا المفهوم بقولهم ان كل المجتمع هو مجتمع مدني وهذا ليس صحيحا».

ماذا عن المحاججة بوجوب منح الاقتصاد الاولوية؟ يقول العظم «انا ماركسي قديم، واعتقد ان للاقتصاد دورا حاسما، ولكن التشاغل بدون طائل بالاقتصاد بدون الاخذ بأي اصلاحات يتطلبها التشاغل بالاقتصاد نفسه هو امر لن يفضي الى اية نتائج». ويتابع القول «قررت سورية السماح بفتح مصارف خاصة مستقلة، وهذا يعني اتوماتيكيا ضرورة وجود نظام قضائي مستقل، لأنه عندما تحصل اي خلافات او مشاجرات بين المصارف والمتعاملين معها او بين المصارف نفسها او مع الحكومة، ولا يتوفر لها حد ادنى من الثقة بقضاء مستقل، فهذه المصارف سترحل او تغلق ابوابها وينهار كل شيء. ولهذا فان من السطحية بمكان القول بانك تنوي السماح بفتح مصارف مستقلة ولا تبادر الى توفير نظام قضائي متين ومستقل في نفس الوقت».

ويرى العظم ان محاججة «الاقتصاد اولا» صادرة عن اعتقاد خاطئ بان الاضطراب المؤلم الذي عانت منه كتلة دول الاتحاد السوفياتي السابق بعد انهيار الشيوعية يمكن تجنبه بتبني النموذج الصيني. ويوضح العظم «ليس صحيحا ان الصينيين يجرون تغييرات على الاقتصاد فحسب بدون تغييرات موازية في كثير من المستويات الاخرى. كما ان الجهاز الحاكم تغير برمته في الصين. ثانيا، بمقدورك تأجيل التغيير السياسي في الصين والتركيز على الاقتصاد بسبب معدل النمو الاقتصادي المرتفع جدا. وعندما يشعر الناس انهم يحرزون تقدما وبوجود الفرص الاقتصادية من حولهم، فانهم يبلعون الطعم ولسان حالهم يقول: نظموا لنا الاقتصاد جيدا ولن تسمعوا اصواتنا ازاء سائر المطالب الاخرى. غير ان هذا كله لا ينطبق على سورية».