حقوق الإنسان بين القوانين الوطنية.. والاتفاقيات الدولية

TT

اصبحت مسألة حقوق الانسان في السنوات العشر الاخيرة من اهم قضايا السياسة الدولية اثارة للجدل وبروزا في المحافل والاجتماعات والمؤتمرات الاقليمية والدولية، واكثرها ارتباطا بقضايا النظام الدولي الجديد والعولمة وحوار الحضارات ومنظمات المجتمع المدني. وعلى الرغم من ان الانطلاقة الجديدة لمسألة حقوق الانسان جاءت في فترة ما بعد الحرب الباردة الا ان هذه القضية قد لعبت دورا حاسما ومهما في فترة الحرب الباردة حيث كانت الدول الغربية تتهم الدول الشيوعية السابقة بانتهاك الحقوق والحريات السياسية لافرادها بينما كانت الدول الشيوعية بالمقابل تتهم الدول الديمقراطية الرأسمالية الغربية باهمال وتجاهل الحقوق الاقتصادية لسكانها الفقراء. فاختلاف وجهات النظر وتباين المواقف الدولية في قضية حقوق الانسان مسألة قديمة ـ جديدة وقد اخذت اليوم ابعادا خاصة املتها ظروف واعتبارات المرحلة التي يعيشها النظام الدولي. والجدل الحالي حول بعض مضامين حقوق الانسان لا يقع فقط بين العرب واوربا او بين الصين والغرب ولكنه يوجد ايضا بين الغرب والغرب وبين امريكا واوربا. ولقد رأينا مؤخرا الغضب الامريكي ضد الامم المتحدة وضد اوربا والناجم عن فشل امريكا في الفوز بعضوية لجنة حقوق الانسان التابعة للامم المتحدة. فلقد حملت امريكا مسؤولية فشلها في هذا الامر الى المجموعة الاوربية.

وعندما نتحدث عن مسألة حقوق الانسان بوصفها احدى قضايا السياسة الدولية المهمة نجد انفسنا امام خمس نقاط او تساؤلات اساسية:

1 ـ تتعلق النقطة الاولى بارتباط مسألة حقوق الانسان بالبعدين الدولي والقومي بنفس الوقت وعلاقتها بالمواثيق والمعاهدات الدولية من ناحية وبالقوانين الوطنية للدول من ناحية اخرى.

2 ـ وتتعلق النقطة الثانية بتحديد اولويات الحقوق في قائمة حقوق الانسان في المجتمعات الانسانية. فهل الحقوق السياسية اهم من الحقوق الاقتصادية ام العكس هو الصحيح.

3 ـ تتعلق النقطة الثالثة بقضية الموازنة بين مبدأ صالح الفرد من جهة ومبدأ الصالح العام وامن النظام الاجتماعي من جهة اخرى، ومن هي الجهة التي تحدد نقطة التوازن هذه؟

4 ـ وتقودنا النقطة الثالثة الى الرابعة والمتعلقة بمسألة العالمية والخصوصية في حقوق الانسان، وحق المجتمعات الانسانية في الاختلاف حول بعض اسس ومضامين الحقوق الانسانية.

5 ـ واخيرا تأتي مسألة التناقض بين الدعوة العالمية لحقوق الانسان واضطهاد الشعوب وهي مسألة تعود في جزء منها الى ذاكرة التاريخ القريبة للممارسة الاوربية في افريقيا، وتتجسد الآن في احتلال اسرائيل للاراضي الفلسطينية وفي ممارسات القمع الاسرائيلية ضد الشعب الفلسطيني والتي تحدث يوميا بشكل علني دون ان تفعل امريكا واوربا ـ داعيتا حقوق الانسان الرئيسيتان في العالم ـ شيئا لمنعها او للتخفيف منها او لمعاقبة اسرائيل بسبب القيام بها. وسوف اناقش هذه الموضوعات الخمسة في هذا المقال والمقال الذي يليه.

حقوق الانسان بين البعدين الدولي والوطني: يفترض من حيث المبدأ ان حقوق الانسان مسألة داخلية تتعلق بالقانون الوطني والسيادة الوطنية للدولة. ولا يتغير الاصل في هذا المبدأ سواء كنا بصدد حقوق سياسية او مدنية او اقتصادية او اجتماعية او ثقافية. او سواء تعلق امر الحقوق بامتناع الدول عن القيام بممارسات معينة بحق الافراد مثل عدم القيام بالاضطهاد والسجن التعسفي او تعلق بقيام الدول بوضع اسس واجراءات لضمان بعض الحقوق مثل المساواة امام القانون وتسهيل حرية التنقل وتقلد الوظائف العامة في الدولة، او تعلق بالتزام الدول بتوفير بعض الحقوق مثل ضمان التعليم المجاني في المراحل الاولى للتعليم، وضمان مستوى معيشي مناسب وضمان مستوى ملائم للصحة البدنية والعقلية. فجميع هذه الحقوق هي من حيث الاصل كما ذكرت تخص الدول وتبقى مسألة النص عليها وضمانها وحمايتها في المقام الاول من اختصاص دستور الدولة وقانونها ومسؤوليتها النظامية. هذا هو الاصل والاساس من حيث المبدأ، ولكن مجموعة من التطورات والاحداث والاعتبارات الدولية وخاصة في اوربا ادت الى اعطاء مسألة حقوق الانسان بعدا دوليا جديدا اضافة الى بعدها الوطني. فلقد قاست مجتمعات اوربا الكثير من ويلات الانظمة الفاشية والنازية وتعرضت حقوق الانسان وحرياته الاساسية الى الانتهاك من قبل هذه الانظمة التي اهدرت قيمة الانسان وكرامته. فبرزت الحاجة في اوربا الى وجود ضمان دولي اضافة الى ضمان الدول لحقوق الانسان السياسية والمدنية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية. واستجابة لهذه الاعتبارات فلقد تم التأكيد على اهمية حقوق الانسان على الصعيد الدولي من ميثاق الامم المتحدة في عام 1945. واتضح ذلك بشكل خاص في المادة (55) في ميثاق الامم المتحدة التي تحدثت عن احترام حقوق الانسان وفي المادة (62) التي جعلت من بين وظائف المجلس الاقتصادي والاجتماعي تقديم التوصيات الخاصة باشاعة احترام حقوق الانسان في العالم. ولقد انشأت الامانة العامة للامم المتحدة ادارة خاصة بها تُعنى بحقوق الانسان كما انشأ المجلس الاقتصادي والاجتماعي التابع للامم المتحدة لجنة حقوق الانسان وهي اللجنة التي اعدت مشروع الاعلان العالمي لحقوق الانسان الصادر عن الجمعية العامة للامم المتحدة في ديسمبر 1948 كما قامت بتحضير مشروعي الاتفاقية الدولية لحقوق الانسان الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والاتفاقية الدولية لحقوق الانسان المدنية والسياسية اللتين تم التوقيع عليهما في الجمعية العامة في ديسمبر 1966 ودخلتا حيز التنفيذ بعد اكتمال النصاب القانوني في التصديق عليهما (الاولى في يناير 1976) و(الثانية في مارس 1976). كما اقرت الجمعية العامة للامم المتحدة مجموعة من الاتفاقيات الدولية الاخرى المتعلقة بحقوق الانسان واهمها الاتفاقية الدولية الخاصة بالقضاء على التمييز العنصري (ديسمبر 1965)، واعلان الامم المتحدة للقضاء على التمييز ضد المرأة (نوفمبر 1967)، والاتفاقية الدولية لحقوق الطفل (نوفمبر 1989) والاتفاقية الدولية لحماية حقوق جميع العمال المهاجرين وافراد اسرهم (ديسمبر 1990).

واضافة الى دور الامم المتحدة في حماية حقوق الانسان، فلقد ساهمت بعض الاتفاقيات والمواثيق الاقليمية في تقديم صيغ ملائمة ومتشابهة لحقوق الانسان. وفي مقدمة هذه الاتفاقيات والمواثيق تأتي الاتفاقية الاوربية لحقوق الانسان، والاتفاقية الامريكية لحقوق الانسان، والميثاق الافريقي لحقوق الانسان والشعوب، واعلان منظمة المؤتمر الاسلامي عن حقوق الانسان في الاسلام. ومشروع الميثاق العربي لحقوق الانسان. ولقد هدفت جميع هذه الاتفاقيات والمواثيق والاعلانات الى تأكيد اهتمام الدول المعنية بها بضمان حقوق الانسان. عودة الى ماتم ذكره عن توزيع مسألة ضمان حقوق الانسان بين القوانين الوطنية والقانون الدولي (للمواثيق والاتفاقيات الدولية) فالملاحظ هو ان القوة الفعلية ما زالت بيد القوانين الوطنية. فالاعلان العالمي لحقوق الانسان هو وثيقة تعليمية ارشادية غير ملزمة للدول فلقد صدر في شكل توصية عن الجمعية العامة للامم المتحدة ومثل هذه التوصيات لا تنشئ عادة التزامات قانونية دولية. ومع ذلك فان للاعلان اهمية معنوية وادبية كبيرة. كما انه كان المصدر الذي انبثقت عنه الاتفاقيتان الدوليتان لحقوق الانسان الاقتصادية والاجتماعية، والسياسية والمدنية. ولكن حتى في هاتين الاتفاقيتين فان سجل الواقع الدولي يظهر تحفظا لبعض الدول على بعض المواد الواردة فيهما وذلك بسبب عدم انسجامها او تعارضها مع قوانينها الوطنية وقيمها ومعتقداتها. ومنطلق هذه الدول في تحفظها هو تمسكها بمبدأ السيادة في قوانينها وانظمتها الداخلية. ويضاف الى ذلك ايضا ان جميع دول العالم تتمسك دائما بحق احتفاظها بالسلطة التقديرية التي قد تستوجب عدم التقيد احيانا بنصوص مواد حماية الحقوق التي وردت في الاتفاقيات الدولية وذلك في حالات الطوارئ او الاستثناءات الضرورية الاخرى. ويتضح هذا الامر حتى في حالة الاتفاقية الاوربية لحقوق الانسان والتي تشتمل على اقوى التعهدات والاجراءات الدولية الكفيلة بضمان حقوق الانسان من قبل جهة اقليمية فوق الدولة. ولهذا فلقد جاء في مقدمة الاتفاقية بأنها تهدف الى حماية حقوق الانسان من خلال التأكيد عليها وجعلها جزءا من القوانين النافذة في الدول الاوربية وتطبيقها من قبل محاكمها الوطنية. كما تخضع الكثير من مواد هذه الاتفاقية الخاصة بتحديد الحقوق والحريات الى القيود المحددة والمنصوص عليها في القانون الوطني للدول والتي تكون ضرورية لصالح امن الجمهور وحماية النظام العام والصحة والآداب، او لحماية حقوق الآخرين وحرياتهم.