إضحك.. وأدرْ ظهرك للمتجهمين

TT

ليس هناك ما هو اكثر جدية من الضحك، ولحسن الحظ انه بات بإمكاننا، وبعد تردد طويل كلّف البشرية اكثر من الفي سنة، ان نضحك ملء شدقينا، من دون ان نتهم ـ وبدعم من العلماء هذه المرة ـ بالخفة والسخف والبلاهة. واذا كان ثمة من لا يزال يتعصب لتلك الآراء المكفهرّة التي ترى في الضحك مظهراً من مظاهر التهريج والاستهتار، فليعبس، ويقطب الجبين، ويدع الآخرين يتمتعون بما أوتوا من نعمة البش والمزاح ورؤية الامور من وجه غير الذي يفرض نفسه بالقوة كالواجبات المدرسية الثقيلة الظل.

كل الدراسات الحديثة تشجعنا على الضحك، وتحثنا على الاكثار منه لأنه وسيلة تواصلية شديدة البلاغة، وهو طُعم ناجع ومضاد للكآبة، يكسب الانسان مناعة ضد صدمات الحياة ولكماتها الشرسة. وقد تأخر اطباء الاعصاب، عشرات السنين، ليثبتوا ما سبقهم اليه صاحب كتاب «الضحك» الشهير، الفيلسوف الفرنسي هنري برغسون (1941 ـ 1859) من ان «الضحك يخدّر القلب» بتفريغه من شحناته العصبية التي تكون قاتلة، في الاحيان، لشدة قوتها. اما اطباء الدماغ، فالضحك بالنسبة لهم صمّام امان عقولنا، ووسيلتنا الفطرية لاعادة التوازن الى افكارنا المضطربة. وبمعنى آخر فإن الضحك يصقل الذهن، ويجعلك اكثر ذكاء ونباهة. وهو كلام يثبت عكس ما ابتلانا به افلاطون من اجتهادات سامة ومتجهمة، مفادها ان الضحك بشع وخطير على مدينته الفاضلة، وانه سلوك لا يليق بالمسؤولين من الناس، اذ يجدر بهؤلاء ان يتركوه للمهرجين والمجانين والاشرار والعبيد. ويبدو ان افلاطون، أخطأ ـ وغلطة الشاطر بألف ـ حين اراد ان يطرد من مدينته شيئين اساسيين هما: الضحك والشعر. وكأنه بذلك يحكم على مواطنيه بحياة فظّة، تخلو من مداعبات الخيال وملامساته النديّة. إلا ان كثيرين بعد افلاطون تاهوا في سكة انحرافاته، ولم ينجح من بين هؤلاء من هم بوزن وذكاء ديكارت او هوبس، اللذين وجدا في الضحك تعبيراً مرَضياً عن اهتزاز النفس واضطرابها. وربما كان العرب اذكى من هؤلاء جميعاً حين مالوا إلى تحسس فوائد الضحك ومنافعه ومردوداته الانسانية الجمة، رغم تحفظهم ومخاوفهم من الافراط والتفريط، إلا انهم رأوا فيه «شيئاً من اصل الطباع، واساس التركيب البشري» كما جاء على لسان الجاحظ، ملك الظرف والتنكيت، وبإمكانك ان تراجع كل اولئك العرب الافذاذ، الذين تركوا لنا مجلدات من الحكمة والفائدة والمنفعة، لترى اي طرافة حرّكت اقلامهم، وليّنت اسلوبهم، ولتكتشف، ربما، لماذا يُعرِض القراء العرب، اليوم، عن كتّابهم الحداثيين، وما بعد حداثيين الذين ملأوا نصوصهم بأحاسيس القرف واليأس والضجر والتيه المجاني، ولم يتركوا فرصة لقارئهم او منفذاً، ولو ضيقاً، يطلّون منه بلفتة مبتسمة، متندرة، ولو كانت عابرة.

واذا كنت ممن يصرّون على عدم الابتسام، الا حين يطلب منك ان تقول «Cheese» لتلتمع اسنانك في صورة، تاريخية بالفعل، لأنها تلتقط ما هو خارج على مألوف عاداتك، فاحذر ان تدخلنا معك الى احدى المدارس/ المصحّات اليابانية التي باتت تتخصص بتعليم الضحك لمن فقدوا سليقة الفكاهة، وشوّهت فطرتهم، ومسخت بفعل العزلة، ومن فرط الكبح والضغط. حتى صار هؤلاء التعساء يجمعون في مكان واحد، ويطلب اليهم ان يطلقوا قهقهات مفرقعة ومصطنعة، اذ ان «الضحك يجرّ الضحك»، وهو فعل معدٍ بطبيعته، وعدواه سريعة، ومجاورته بهيجة، ولو كان هستيرياً بائساً على الطريقة اليابانية. والاجدر بالبشرية بدل ان تراهن على فعالية الوجوه المعجونة بالخل والحامض ان تعنى بصون الروح الطفولية الحلوة المذاق، التي تُستنزف وتذوّب بفعل قسوة الزيف الاجتماعي، وواجبات تقمص الادوار المصطنعة والمتبدلة خلال اليوم الواحد.

وربما كانت المحاولات الفكاهية الاميركية والكندية، الشديدة الجدية، لارجاع الكبار الى حدائق طفولتهم وجنانها، تأتي في هذا السياق البديع، الطامح الى تخليص النفس من الاعتبارات اليومية وادرانها. ويكفيك ان تقضي يوماً من العمر بين مباهج «ديزني لاند» لترجع طفلاً يخاف الاشباح، ويهوي ـ كما في الاحلام ـ بالمطبات الهوائية، ويضحك من نفسه، وينسى وقاره التنكري، بعد ان ينبش ذكرياته، وهو يتأرجح بين الارض والسماء. واهالي مونتريال، اخذوا على عاتقهم، منذ مطلع الستينات جعل مدينتهم الاكثر اضحاكاً في العالم (وهو شرف كبير لمن يقدّر ويعي ويتفكّر). وقد ابتكر هؤلاء الكنديون الظرفاء مهرجاناً سنوياً للضحك. وانشأوا «المدرسة الوطنية الفكاهية» التي على عكس ما يمكن ان تتخيل، لا تعلّم الضحك، وانما تعلم الفرنسية بأساليب فكاهية، بحيث تصبح الضحكة هي الجزرة التي يصطادون بها عشرات آلاف المراهقين والشباب الذين ينضمون الى هذه المدرسة الذكية التي اعفت نفسها من البلادة والنعاس.

وبلغ حد تحدي مونتريال للتجهم ان انشأت متحفاً للضحك فريداً من نوعه في العالم، يعرّف زواره على الانسان الضاحك حول العالم، من خلال معروضات مثيرة ووثائق وارشيف منظم ورصين، لا يتعارض، في اي حال مع منطق الضحك نفسه.

وتجارب من هذا الصنف الذي يبدو يسيراً بسيطاً، يصطدم، لا شك ببديهة، تجهلها الغالبية وتعرفها تلك القلّة، التي تدرك صعوبة ان تُضحك الآخر، اذ ينجح آلاف الممثلين ومقدمي البرامج والمبدعين باثارة احزان الناس واسالة دموعهم، ولا يفلح سوى ذوي المواهب النفاذة والشفافية المرهفة بانتزاع الضحكات من القلوب المغتمّة. ومن هنا يأتي الاحتفاء المبرر بعبقري مثل شارلي شابلن، الذي امتع، وافرح وابكى بصمت مذهل، وعلى شاكلته لوريل وهاردي اللذان ستخلدهما السينما على ازدحام لائحة نجومها المستجدين. ثمة ظواهر شديدة الاهمية، في مجال الضحك والاضحاك، تستحق بحوثاً معمقة، منها ـ على سبيل المثال ـ شيوع الفنون الكوميدية الفكاهية وتكاثفها منذ القرن التاسع عشر حيث ولد القودفيل، ومسارح المقاهي، والميوزيك هول، بعد ان اكتفى العالم طويلاً بالنكات واللعب على الكلام والكوميديا الكلاسيكية والمهرجين وغيرها من الفنون المعروفة. وصارت السينما من المنابر الفكاهية وتبعها التلفزيون وببراعة اكبر ليتحول الى نافذة للترفيه عن النفس والترويح، بعد ان تبين للمعلنين والمتاجرين بالمهن السمعية ـ البصرية، ان الضحك هو السلعة الاوفر حظاً والاسهل تسويقاً.

فالكل يريد ان يضحك ويمرح، ولكن المشكلة لم تحلّ، بانفراجات تلفزيونية او مسرحية مبرمجة ويبقى ان تعرف كيف تفرق ـ وهنا الصعوبة، بين الذي يضحك معك ويضحك منك او يضحك عليك، او يضحك لأجلك. واذا كانت الضحكات التي تحيط بك صفراء او سوداء او بيضاء؟ وهل هي من المضحك المبكي ام المضحك المريب؟ وكيف السبيل الى ضحكة بريئة لا سم فيها ولا رياء؟ وهل ما زال العالم قادراً على الضحك، بصدق وعفوية، من دون حاجة الى مدارس وبرامج وجمعيات ومؤتمرات وخطط تسويقية، تجعل الافراح الانسانية مفبركة، ومحض «ضحك على اللحى»؟.