حقوق الإنسان بين العالمية والخصوصية الوطنية

TT

على الرغم من أن المبادئ العامة لحقوق الانسان هي مبادئ عالمية انسانية واخلاقية تقرها جميع المجتمعات المتحضرة، الا أنه لا يمكن لمواد وقوائم حقوق الانسان أن تكون عالمية المضمون والأولوية. فبعض المجتمعات ـ كما ذكرت سابقاً ـ تعطي أولوية في اهتمامها لبعض الحقوق أكثر من مجتمعات أخرى. ولا يستطيع أحد أن ينكر مثلاً أن الدول الاسكندنافية تعطي اهتماماً أكبر لحقوق الضمان والرفاه الاجتماعي من الاهتمام الذي تعطيه امريكا لهذه الحقوق.

ويتضح الاختلاف في اولويات الحقوق بين الدول على سبيل المثال في مسألة عمل المعوقين. فبعض الدول والولايات الامريكية هي أكثر الزاماً لأصحاب الأعمال بتوظيف المعوقين من دول وولايات أخرى. فاهتمام المجموعة الأولى في المقام الأول هو حماية حقوق المعوقين في العمل، واما المجموعة الثانية من الدول والولايات الأقل الزاماً لأصحاب الاعمال في توظيف المعوقين الذين قد يؤدي توظيفهم إلى تعطيل وتأخير العمل، فإنها تحاول الموازنة بين حقوق المعوقين في العمل وحقوق أصحاب الأعمال في تطوير اعمالهم.

وتزداد الفجوة في مسألة حقوق الانسان بين الدول عندما يتعلق الاختلاف بمضمون الحقوق نفسها وليس فقط بالأولويات. وينقلنا هذا الأمر إلى جوهر القضية الثالثة من القضايا الخمس التي طرحتها في حقوق الانسان وهي قضية التنازع بين العالمية والخصوصية الوطنية في الحقوق الانسانية. فأمريكا وأوروبا اللتان تسيطران الآن على الأمم المتحدة تحاولان فرض بعض مبادئهما الليبرالية في حقوق الانسان على الدول الأخرى. ولكن هناك فرقاً مهماً ينبغي توضيحه بين القيم الليبرالية من جهة وحقوق الانسان من جهة أخرى. والمجتمع المحافظ يتساوى من حيث المبدأ في اهتمامه بحقوق الانسان مع المجتمع الليبرالي ولكن ضمن اطار نظرته وفلسفته المحافظة في الحياة الاجتماعية والسياسية. ولا ينبغي للتصنيفات العالمية ان تحدد حقوق الانسان وفق القائمة الليبرالية وبالشكل الذي يجعل الدول الليبرالية الغربية تظهر بمظهر المؤيد لحقوق الانسان بينما تظهر الدول المحافظة بمظهر المعارض لهذه الحقوق. وحقيقة الأمر هي ان الدول المحافظة قد تكون احياناً أكثر اهتماماً بأحد مظاهر حقوق الانسان من الدول الليبرالية ولكن ضمن اطار فلسفتها الاجتماعية المحافظة الخاصة بها. فمن خلال مقارنتنا مثلاً للمجتمعات الاسلامية المحافظة والمجتمعات الامريكية والأوروبية الليبرالية يمكننا ان نلاحظ وجود اختلاف واضح بين الطرفين في ما يتعلق باهتمام كل منهما بحقوق الوالدين وحقوق الطفل. فالمجتمعات الاسلامية تعطي اهتماماً متميزاً لحقوق الوالدين لا يوجد له مثيل في المجتمعات الغربية الليبرالية. ويتضح ذلك في المقارنة بين الحقوق الاساسية التي وردت في الاعلان العالمي لحقوق الانسان وفي المواثيق الدولية والاقليمية التي انبثقت عنه من جهة وبين الحقوق التي تم النص عليها في اعلان منظمة المؤتمر الاسلامي لحقوق الانسان وغيرها من المشروعات والاعلانات الاسلامية من جهة أخرى. فبينما تضمنت جميع الاعلانات الاسلامية نصا واضحا لحقوق الوالدين جاءت جميع الاعلانات العالمية خالية من هذا النص. ويعود سبب الاختلاف إلى حقيقة أن حقوق الانسان في أي مجتمع تتأثر بشكل كبير بالقيم والثوابت الحضارية لهذا المجتمع، ولقد نص القرآن الكريم على حقوق الوالدين. ويتضح الفرق أيضاً بين الدول الاسلامية والدول الغربية في اهتمام كل منها في حقوق الوالدين في مقارنة الانظمة ومواقف القضاة في كل منها في الموضوع. فالقضاء الاسلامي يلزم الرجل القادر بالانفاق على والديه المحتاجين بينما لا يوجد مثل هذا الالزام في حالات القضاء الغربي. وهناك حالات من القضاء الأموي والعباسي والاندلسي التي الزم فيها القاضي الرجل المسلم بمساعدة والديه العاجزين غير المسلمين من أهل الكتاب في أمور حياتهما المعيشية، كما الزمه بعدم اذيتهما في ممارسة شعائرهما الدينية وعدم منعهما من اداء تلك الشعائر.

وفي ما يتعلق بحقوق الطفل نجد أن جميع الاعلانات الاسلامية لحقوق الانسان تتضمن نصاً واضحاً وصريحاً على ضمان حقوق الطفل. ولكن بعض المواثيق الدولية في حقوق الطفل تتضمن بنوداً يصعب الموافقة عليها بشكل مطلق في المجتمعات الاسلامية أو المجتمعات المحافظة بشكل عام. فلقد تضمنت الاتفاقية الدولية لحقوق الطفل التي اقرتها الأمم المتحدة في نوفمبر 1989، الموافقة على حق الطفل ـ وهو كل انسان لم يبلغ الثامنة عشرة من العمر ـ في حرية الفكر والمعتقد والدين. وان من شأن هذه المادة في الحقيقة ان تؤدي إلى التفكك الأسري وإلى اضعاف الترابط الاجتماعي. فبموجب هذا النص يمكن لأي طفل (أو طفلة) في الثانية عشرة من العمر أن يعود يوماً من المدرسة ويقول لوالديه بأنه قد قرر تغيير ديانته أو أنه أصبح معجباً بالفكر الالحادي وأن له الحرية الكاملة في أن يقرأ ما يريد لأن حقوق الطفل العالمية تضمن له حرية الفكر والمعتقد. ولتجنب هذا الوضع غير المعقول ومثله فلقد وجدت بعض الدول الاسلامية نفسها مضطرة للتحفظ على هذه المادة وغيرها من المواد المشابهة، لأنها تتعارض مع الشريعة ومع الاخلاق الاسلامية، ومع حرص الاسلام في المحافظة على ترابط وتماسك الأسرة.

ومن الواضح ان هذه المادة سوف تخلق مشاكل عديدة حتى في المجتمعات الغربية التي اقرتها. فلقد شهدت بعض الولايات الامريكية قبل عدة سنوات غضبا كبيرا للاهالي بسبب اعتراضهم على بعض المقررات والكتب الدراسية التي تقدم لأولادهم في المدارس. كما تطورت هذه المشكلة ايضا في اوروبا واهتماما بمعالجتها فلقد جاء في المادة الثانية من بروتوكول باريس الذي أضاف بعض المواد الالحاقية للاتفاقية الأوروبية لحقوق الانسان بأنه (يجب على الدولة لدى قيامها بأعمال تتعلق بالتعليم والتدريس احترام حق الوالدين في اتفاق التعليم والتدريس مع ديانتهم ومعتقداتهم الفلسفية) ويتضح أن هذه المادة تختلف في مبدأها مع نص الاتفاقية الدولية لحقوق الطفل الخاص بحق الطفل بحرية الفكر والمعتقد والدين.

وبصرف النظر عن حجم الضغوط التي تمارسها أمريكا وأوروبا على دول العالم الأخرى للموافقة على النصوص المصوغة في الغرب لحقوق الانسان فإنه من المستحيل لأي دولة في العالم أن توافق على أي مادة من مواد مواثيق واتفاقيات حقوق الانسان إذا كان نص المادة يتعارض مع قيمها ومعتقداتها وثوابتها. ولهذا السبب يمكننا ان نلاحظ حرص بعض الدول الاسلامية على التمسك دائما بحقها في التحفظ من حيث المبدأ على نص أي مادة في أي اتفاقية دولية إذا كان النص يتعارض مع الشريعة الاسلامية. وإذا عدنا الى اعلان منظمة المؤتمر الاسلامي لحقوق الانسان في الاسلام، نجد ان المادة (24) في الاعلان تنص على وجوب التقيد بأحكام الشريعة الاسلامية في ممارسة كل الحقوق والحريات المنصوص عليها في الاعلان. كما تنص المادة (25) على أن الشريعة الاسلامية هي المرجع الوحيد لتفسير أو توضيح أي مادة في الاعلان.

وفي ما يتعلق بالمجتمعات الغربية نفسها فإن توجهها الحالي في اطلاق مسألة حقوق الانسان دون أي قيود أو حدود سوف يجعلها تواجه مشكلات اجتماعية وسياسية خطيرة لا يمكن معالجتها إلا من خلال تأطير الحقوق الانسانية ووضعها في صياغات منسجمة مع الافكار والعقائد العامة السائدة في المجتمع. وعلى سبيل المثال فإن بعض الدول والولايات والمقاطعات والأقاليم الامريكية والاوروبية التي اعطت الشاذين جنسيا حق اشهار علاقاتهم الشاذة من منطلق حماية حقوقهم الانسانية بدأت تواجه بعض المشاكل الاجتماعية الجديدة. ولقد قال لي مرة زميل دراسة امريكي ليبرالي التوجه بأنه قد وافق على اعطاء الشاذين جنسيا حقوقهم الكاملة في المنطقة التي يعيش فيها، ولكنه الآن يواجه احراجا كبيرا عندما يسأله اولاده الصغار عن طبيعة العلاقة التي تربط جاريهما الرجلين الشاذين جنسيا، واصبح يتمنى لو ان المقاطعة التي يسكن بها تغير الانظمة التي سبق له الموافقة عليها.

ان قضية العالمية والخصوصية التي ترتبط في جوهرها بموضوع العولمة هي أوسع بكثير من موضوع حقوق الانسان. فهي ترتبط بمجالات ومضامين سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية عديدة. وان جزءا كبيرا من الجدل الحالي حول العولمة هو في حقيقته جدل فلسفي حول التنازع بين العالمية والخصوصية. وان هذا الموضوع هو موضوع قديم وليس جديدا. فلقد تضمنت نظريات التنمية السياسية في الستينات والسبعينات الميلادية جدلا واسعا حول هذا الموضوع الذي عرف عندئذ باسم عالمية القيم Universal Values وبعض المفكرين الامريكيين الذين كتبوا في الموضوع طرحوا فكرة عالمية القيم الموجودة في الغرب ودعوا الى نشرها لبقية ارجاء العالم. ولكن مفكرين واساتذة امريكيين آخرين عارضوا مبدأ عالمية القيم الغربية واكدوا ضرورة تمسك الدول النامية بخصوصياتها الحضارية والثقافية. ولقد كتب احد هؤلاء المفكرين وهو الدكتور رالف بريبانتي من جامعة ديوك الامريكية مقالة رائعة في الموضوع توضح اسباب معارضته لفكرة عالمية القيم واستشهد بعدد من القيم الموجودة في العالم الاسلامي والتي تصلح هي كما ذكر لأن تكون قيما عالمية اكثر من بعض القيم الغربية. ثم تساءل قائلا: كيف ندعو الدول الاسلامية الى التخلي عن هذه القيم واستبدالها بقيم غربية ادت شيئا فشيئا الى خلق مشاكل اجتماعية عديدة في نفس المجتمعات الغربية التي نشأت وتطورت بها.