القانون الدولي يستعيد هيبته في ظل العولمة

TT

أَن تُستدعى الفلسطينية سعاد سرور من سكان مخيم صبرا وشاتيلا كشاهدة في القضية المرفوعة ضد شارون في بلجيكا لتورطه في المذبحة الشهيرة باسم المخيم قبل 19 سنة، لهو نصر كبير للافراد البسطاء، فسعاد فقدت كل أسرتها في تلك المذبحة، وانجاز انساني عالمي يعطي الحق لأي مظلوم ومتضرر بشكل كبير من الدول وحكامها ان يحصّل حقوقه من المعتدي. وغالبا ما يكون الطرف الاخر المعتدي دكتاتورا او مجرم حرب، مارس التعذيب والابادة على مجموعات بشرية من منطلق عنصري وحشي. والعنصرية هنا ليس بمفهومها البسيط وانما بمفهومها الواسع، وهو معاداة الاخر المختلف، الاختلاف بالعرق او الدين او الطائفة، وقد يكون، وهو السائد في تركيبة المجتمعات الحديثة، المختلف في الموقف السياسي الفكري وفي وجهات النظر بشكل عام، او ما يطلق عليه بالمعارض.

ها نحن نرى جانبا ايجابيا للعولمة التي بات شبح التخويف منها يطل علينا من كل شاشة تلفزيون وصحيفة، ودائما هناك قلم او صوت ينذر بعواقبها، الوخيمة بالطبع، دون ان يشير الى ايجابية ولو واحدة لهذه العولمة. لكن ما يحصل في العالم الان من يقظة ضمير على مستوى حقوق الانسان ناتج عن انتهاء الصراع بين العملاقين الكبيرين. لقد انتهى زمن التحالفات التي يدعمها واحد من المعسكرين، الغربي او الشرقي، والتنافس في ما بينهما لحماية الحلفاء ايا كانت سمعة الحليف وايا كانت وساخة يده الملطخة بدماء شعبه. كانت السمة العالمية القديمة تميّع مختلف قضايا العالم تحت مظلة الصراع الاشتراكي الرأسمالي. كل طرف يدافع عن طغاته ومجرميه نكاية في الطرف الاخر، دفاعا عن المصالح الذاتية بالدرجة الاولى. لكن منذ حركت الحكومة الاسبانية دعوتها ضد الجنرال بينوشيه دكتاتور تشيلي ورئيسها الاسبق قبل ثلاث سنوات بتهمة تعذيب وقتل مواطنين اسبان عاشوا في تشيلي، اتسع الافق امام الدول والمجموعات البشرية لتطالب بحقها، قانونا هذه المرة، لا عن طريق الاغتيال او الخطف او حتى شن الحرب، والقضية المحركة ضد شارون في المحكمة المختصة بجرائم الحرب في بلجيكا حركتها اساساً لجنة شكلت خصوصا لهذا الغرض اطلقت على نفسها اسم (لجنة صبرا وشاتيلا) وسعاد سرور شاهدة على مذابح ووحشية افقدتها، لا قدرتها على المشي فقط، بل وكل عائلتها تقريبا.

واذا كان طلبة كليات القانون في العالم دأبوا على دراسة القانون الدولي على انه اقرب الى الاعراف الدولية، ولا يملك سلطة التشريع التي تسمح بتنفيذ العقوبات على الدولة المخالفة، فإن العالم في الالفية الجديدة سيشهد حضورا قويا للقانون الدولي، وسيعاد النظر في قواعده واسسه الى ان يتمتع بهيبة طالما افتقدها وتمتعت بها القوانين الداخلية او القوانين الوطنية. على هذا الاساس سيتسع نطاق القضايا الدولية والجهات التي لها الحق في المقاضاة، استنادا الى القاعدة القانونية التي تقول انه يحق لأي متضرر ان يدعي على الطرف المتسبب بالضرر، وان الجهة القضائية المتخصصة التي تفصل في النزاع لا تكتفي فقط بأن توقف اسباب الضرر، بل وتحكم بالتعويض المناسب لما لحق بالمدعي من اذى، نفسي ومادي. من هذا المنطلق اتوقع توسع صلاحيات المحاكم الدولية، بل وتنوع مجالاتها لتناقش قضايا لم تكن لتدخل في اختصاصها من قبل الا من بابها الضيق، مثل القضايا البيئية. في هذا السياق يقترح الخبير الاقتصاي البريطاني ستيفن تيم ان تبادر الدول الفقيرة الى رفع قضية على اميركا التي لا تزال ترفض الالتزام باتفاقية دولية لحماية الكرة الارضية من التغيرات المناخية التي طرأت عليها بسبب تقلص طبقة الاوزون. ان العالم الفقير يعاني اكثر بكثير مما يعانيه العالم المتقدم من نتائج الكوارث البيئية، مثل السيول والاعاصير والفيضانات، واخر الامثلة ما حصل في الهند وباكستان من هطول للامطار لم تشهدها منذ سنوات طويلة. ويقدر برنامج الامم المتحدة للبيئة ان العالم يتكبد خسارة مقدارها 300 بليون دولار سنويا على شكل خسارة مادية او ترميم لهذه الخسارة بعد الكوارث، ويتوقع ان تصل خسارة الدول النامية الى 6.5 تريليون دولار خلال الاعوام العشرين القادمة. اليس من حق الدول المتضررة اذن ان تدعي على المتسبب بهذا الضرر الذي لا يني يرفض الالتزام باتفاقية تحدّ من استخدام الغازات والملوثات الطبيعية الضارة بالبيئة؟.. وهو موقف يستند الى عنجهية وانانية سعيا وراء تحقيق ارباح ضخمة من الصناعات المختلفة على حساب البشرية. ان سارت الامور على هذا المنوال، وُعمم القانون الدولي واصبح متاحا لاكبر عدد من المتضررين بشكل عام، فإن المستقبل يبدو اكثر اشراقا من الماضي، اذ ستتحرك المنظمات المدافعة عن البيئة او ما يسمى باحزاب الخضر، دفاعا عن امنا الارض التي تكاد تختنق من شدة الغازات الضارة التي تبعث منها. كذلك لن ينجو طاغية من افعاله المشينة، وها هو بينوشيه الجنرال المغرور الذي امر رجاله بممارسة شتى انواع التعذيب بحق شعبه، لم يحمه الامتياز الذي يحمله كعضو في البرلمان التشيلي مدى الحياة، ويعيش الان تحت طائلة احتمال المحاكمة وفتح ملفاته البشعة ـ التي فتحتها الصحافة العالمية بكل تفاصيلها. وما يحدّ من سرعة المباشرة في هذه المحاكمة ما يدعيه محاموه من ان صحته لا تسمح له بذلك!. وسواء حوكم بينوشيه ام لا، يكفيه انه لن يموت ببدلة عسكرية ناصعة، نظيفة من دماء الضحايا. وان ما تبقت له من سنوات شيخوخته لن تكون سنوات هانئة تمنحه العزة والكرامة كرئيس سابق للجيش والبلاد. لن يفلت اخرون كذلك، من هو في الحكم الان او تقاعد وتحول الى اعمال التجارة وصار مدافعا عن الديمقراطية !. ارواح قتلاهم ستظل تلاحقهم، ومثابرة الاحياء من اصحاب القضية المعنيين بها لن تتركهم يفلتون من جرائمهم. قد اكون متفائلة اكثر مما يجب، وقد يعني تفاؤلي زحمة القضايا التي ستنظر بها المحاكم الدولية المختصة، لكن لي في المحكمة الاوروبية العليا مثالاً يدعم تفاؤلي، فهي تشكل مثالا يحتذى للفصل في قضايا الاوروبيين المتضررين من قوانين حكوماتهم، ومن باب اولى ان يتسع نطاق الجهات القضائية الدولية ليتجاوز مجرد الفصل في النزاعات التي ترفعها الدول، لتطال تظلمات الافراد العاديين المتضرررين من طغاتهم والدول الفقيرة المتضررة من ممارسات الدول الكبيرة، وكل المنظمات غير الحكومية التي تعنى بحقوق الانسان في كل مكان.

[email protected]