الوضع أخطر مما يتصور الكثيرون

TT

في الوقت الذي قامت به طائرات الآباتشي بقصف منازل خان يونس بالصواريخ، ودكت مدفعية الدبابات الاسرائيلية ثلاثة مواقع للامن الوطني الفلسطيني في رام الله من الضفة الغربية، دعا شمعون بيريس للبدء في المفاوضات السياسية فورا ودون ابطاء. وكُشف النقاب عن زيارة سرية قام بها وزير الدفاع الاسرائيلي، بنيامين بن اليعزر، للاردن اجرى خلالها مباحثات مع الملك عبد الله الثاني وكبار المسؤولين الامنيين الاردنيين، كما اعلن شارون عن تململه من الضغط الاميركي بشأن ارسال مراقبين دوليين حسبما قررت الدول الثمانية في قمة جنوى. وذهب شارون الى حد التلميح بان الادارة الاميركية «منحازة للعرب». ويؤكد وليام بيرنز في واشنطن امام لجنة العلاقات الخارجية في الكونغرس الاميركي، ان المراقبين الذين تفكر الولايات المتحدة بارسالهم لن يكون عددهم كبيرا بل متواضعاً من المدنيين لمراقبة تطبيق توصيات ميتشيل.

في ظل هذا الزخم من التصريحات والموافقة المعلنة تبقى الحقيقة الوحيدة الماثلة امام الشعب الفلسطيني هي المعاناة اليومية التي كادت تصبح بالنسبة لمشاهدي الفضائيات منظرا يتكرر يوميا، ويتحول تدريجيا الى عادة وتعود، وربما الى تعايش، وكان شارون قد نجح في فرض امر واقع مؤلم ومدمر. ففي كل يوم تقوم قوات الاحتلال باغتيال المناضلين الفلسطينيين علنا وفي وضح النهار، والخطير في هذا الامر هو ان الحكومة الاسرائيلية اعلنت عن خطتها لاغتيال النشطاء دون ان تعير اهتماما لمطلب الادارة الاميركية والاتحاد الاوروبي بوقف هذه العمليات، سواء استخدمت فيها اسرائيل طائرات الآباتشي او العبوات الناسفة او قذائف الدبابات.

من ناحية اخرى، لم تكتف اسرائيل باغتيال «النشطاء في الميدان العسكري» ان جاز التعبير، بل انتقلت الى مرحلة جديدة من الارهاب المنظم الذي يمارسه جيش الاحتلال وهو اغتيال الكوادر الشعبية والسياسية. هذه مرحلة تصعيدية جديدة تنسجم مع خطتي «حقل الشوك»، و«جهنم» اللتين وضعهما ضباط الاركان في الجيش الاسرائيلي لتدمير الفلسطينيين وسلطتهم منهجيا. وآخر مثال على هذه الجرائم كان اغتيال المناضل صلاح دروزة الذي قصفت الدبابات الاسرائيلية سيارته بخمسة صواريخ. والجدير بالاشارة ضمن هذا السياق ان الشهيد صلاح دروزة لم يكن «مطلوبا» لاسرائيل، فلم يرد اسمه في اللائحة التي سلمتها الاجهزة الامنية الاسرائيلية لرجال وكالة المخابرات المركزية الاميركية كي يسلموها لأجهزة الامن الفلسطينية.

ولا ادل على ما اقول من العمليتين اللتين نفذتهما قوات الاحتلال الاسرائيلية خلال الساعات الاربع والعشرين الماضية، وهما عمليات اغتيال ستة كوادر سياسية من حركة فتح في الفارعة ـ نابلس وعملية اغتيال اثنين من القيادات السياسية لحركة حماس في مدينة نابلس والتي ذهب ضحيتها الى جانب القياديين خمسة اعضاء في مركز ابحاث سياسي تابع لحركة حماس وطفلان فلسطينيان.

هذا هو التصعيد النوعي ضمن اطار تنفيذ خطة «جنهم» التي تهدف الى تهجير وتطهير عرقي جماعي.

وتقوم جرافات العدو المضخمة مدعومة بالآليات والدبابات بهدم بيوت الفلسطينيين في القدس ورفح وخان يونس وغيرها من البلدات والقرى والمخيمات. وهذا اقتحام مسلح لمناطق خاضعة للسلطة الوطنية الفلسطينية. وهو بذلك خرق فاضح لقرار وقف اطلاق النار.

ونسمع الولايات المتحدة تطالب اسرائيل بالتوقف عن سياسة هدم بيوت الفلسطينيين واقتحام المناطق الخاصة للسلطة لكن الحكومة الاسرائيلية تعطي تعليماتها لقوات الاحتلال بالاستمرار في سياسة التدمير والاختراق المنهجية، وهذا الاعتداء المسلح هو ايضا جزء من خطتي «حقل الشوك» و«جهنم» سابقتي الذكر.

وهذا تنفيذ تدريجي ومنهجي لمخطط تدمير الفلسطينيين وتشتيتهم وتهجيرهم من منازلهم واراضيهم. ونعود لنسمع السيد وليام بيرنز وكيل وزارة الخارجية الاميركية والمبعوث الاميركي الخاص للشرق الاوسط، يقول امام لجنة العلاقات الخارجية في الكونغرس ان «على ياسر عرفات ان يبذل جهدا اكبر لوقف اطلاق النار وكأن الجرافات الفلسطينية والدبابات الفلسطينية هي التي تدك بيوت كفار سابا او ناتانيا او تل ابيب!! ويسام الفسلطينيون العذاب على حواجز جنود الاحتلال يوميا، ان هم اضطروا للتحرك من قرية فلسطينية الى قرية اخرى، او ان هم اضطروا للعلاج او الذهاب للمستشفى، او ان اضطرت النساء الحوامل للولادة.

ويتحدث شارون على مسمع من كل العرب عن الارهاب الفلسطيني وعن تخلي ياسر عرفات عن الحل السياسي ولجوئه للارهاب. ويصمت الجميع صمت اهل القبور.

ولا بد من القول هنا.. ان الوضع بالفعل اخطر مما يتصور الكثيرون. وان الوقت الذي يمر دون كلل او توقف، يعني مزيدا من المعاناة ومزيدا من التهجير المتدرج ومزيدا من تهويد القدس، وقضم الحرم القدسي الشريف تدريجيا. وقف اطلاق النار تهدمه «اعادة ثقة».. «جدول زمني».. «جدولة التطبيق» الخ.. كلها مفردات ومضامين لا تخدم سوى مخطط شارون الارهابي سواء ما رسم في «حقل الشوك» او ما رسم في «جنهم».

والمطلوب هنا اعادة ترتيب المفردات بحيث تخدم تطبيق قرارات الشرعية الدولية واشاعة الاستقرار والامن واقامة السلام المستند الى تلك القرارات الدولية.

وهذا يعني ان الولايات المتحدة وروسيا مطالبتان اكثر من اي وقت مضى ان تفرضا هيبة القرارات الدولية لتنفيذها. وليس بالصمت على رفض الحكومة الاسرائيلية تطبيقها.

الموضوع الجوهري، وهذا بديهي، هو انهاء الاحتلال الاسرائيلي للاراضي العربية والفلسطينية التي احتلت عام 1967، وتمكن الشعب الفلسطيني من اقامة دولته المستقلة كاملة السيادة على ارض الضفة الغربية وقطاع غزة.

هذا هو الجوهر. وامتنا العربية ودولها المتنفذة مطالبة بان تفهم الدول الثمانية التي اجتمع قادتها في جنوى، والتي لها مصالح كثيرة جدا في بلادنا، ان هذا الجوهر هو الذي يتطلب معالجة. اذ من غير المقبول، ان تستمر الحكومة الاسرائيلية في اعتداءاتها على الشعب الفلسطيني ومحاصرة ثلاثة ملايين انسان، وفي رفضها تطبيق قرارات الشرعية الدولية، ويستمر صمت الدول الكبرى، ازاء هذه السياسة الارهابية، وازاء استمرار اسرائيل في التصرف كقطاع الطرق دون حساب ودون ضغط حقيقي كي تنسحب من الاراضي الفلسطينية والعربية المحتلة.

شمعون بيريس يقول ببدء المفاوضات السياسية فورا ودون ابطاء. الفسلطينيون جاهزون للمفاوضات بمشاركة الدولتين الراغبتين في عملية السلام وعلى الاسس الدولية الواضحة وعلى اساس معادلة الارض مقابل السلام.

الفلسطينيون لا يريدون العنف ولم يبادروا لممارسته. الاحتلال هو مصدر العنف والارهاب الموجه ضد شعب بأكمله. والدفاع عن النفس حق مشروع للامم، فلنضعه جانبا ولنبدأ المفاوضات بمشاركة جادة وحازمة من الولايات المتحدة واوروبا وروسيا.

وهذا ما يمكن للقادة العرب ان يقنعوا الادارة الاميركية واوروبا وروسيا بضرورته الملحة. وهذا ما يمكن لقمة عربية مصغرة تعقد خلال 24 ساعة ان تتخذ قرارا بشأنه وان يطلب القادة العرب من الرئيسين بوش وبوتين ان يحضرا هذه القمة العربية المصغرة كي يعرفان ويلمان بشكل مباشر بالخطر الكبير الذي يتعرض له الشرق الاوسط، وكي يتخذا موقفا حازما ازاء ممارسات وتصرفات اسرائيل التي تعتقد انها فوق القانون.