عولمة الانفصام

TT

تقول دراسة طبية وضعها الباحث الأميركي وليم فيغا ونشرت في «محفوظات الطب النفسي العام» ان المهاجرين من المكسيك الى اميركا يكونون لدى وصولهم في حال صحية افضل من حال الأميركيين الذين سيعيشون بينهم، وكلما مرت عليهم السنون أصبحوا عرضة للمرض، وبعد فترة تبلغ 13 عاماً يتعرض 18% منهم لمرض نفسي، وكلما فقدوا او نسوا الثقافة التي حملوها معهم خفت حصانتهم، وفي النهاية ينتشر بينهم ادمان المخدرات والاحباط بنسبة 32% وهو المعدل العام في الولايات المتحدة، أما النسبة بين المكسيكيين الذين ولدوا في اميركا فهي 49% والنساء المكسيكيات اللواتي يتعاطين المهدئات أعلى 7 مرات مما هي لدى المهاجرات حديثاً.

تقول دراسة أخرى وضعتها منظمة الصحة العالمية ان حالات انفصام الشخصية ارتفعت بنسبة 45% في البلدان النامية، خصوصاً بين النساء. ويختصر ديفيد بيرن المفوض الصحي الأوروبي، المسألة بالقول ان ثقافة العولمة قد مكنت الناس من ان تصبح ما تريد لكنها جردتها مما كانت تملك، والمقصود بالثقافة هنا ثقافة الاستهلاك التي تنشرها الحضارة الأميركية على نحو طاغ وتحول انسان اليوم، خصوصاً في اميركا، الى عجينة تعبأ بكل البذور والبثور التي تلصق بها بسرعة وطواعية. فالانسان المعاصر هو كائن تدفعه في الحياة وتحركه آليات الاستهلاك وادوات الاعلان. والأكثر تأثيراً في حياة الناس اليوم لم تعد المدارس الفكرية بل رجل مثل روبرت مردوخ يملك 800 محطة تلفزيون في 52 بلداً حول العالم.

قبل أيام مررت بمنزل صديق لي لنذهب معاً الى حفل موسيقي فوجدته غير جاهز بعد، فدخل يرتدي ثياب الحفل فيما انتظرت امام التلفزيون. ولسبب ما كانت القناة «سكاي»، وكان الموضوع مضاعفات القرار بالسماح للويس فراقان بدخول بريطانيا، لا أدري كم عدد الدقائق التي أمضيتها في انتظار صديقي لكن خلالها لم يكن هناك موضوع آخر سوى فراقان، صور تتلاحق وتتبدل وتستعيد وتقدم للناس هذا الغول القادم من اميركا لابتلاعها على أول طائرة. وغادرنا تاركين لويس فراقان على شاشة روبرت مردوخ يرعب العالم ويهدد الانسانية ويبعث سوء الهضم في عشاء البريطانيين.

هذا الطغيان الاعلامي في «حرية» المعلومات هو في الحقيقة ديكتاتورية الصناعة الاعلامية الاعلانية المعاصرة، ومثال او نموذج المهاجرين المكسيكيين لا يحتاج الى ابحاث ودراسات ومعاهد، ففي قريتي، حيث لم يصل المستر مردوخ بعد، يعيش المعمرون الى ما بعد المائة، غالباً دون اي استشارة من طبيب القرية او أي دواء من صيدليتها، وما نسميه راحة البال لا يعني فقط ألا يكون المرء غير مدين وقادرا على تأمين الأقساط المدرسية (حتى في لبنان) بل هو اليوم عدم الوقوع في بئر الإعلام العولمي الذي يفرض على يومك اسوأ انواع افلام الرعب أو العنف، مرفقة بنشرة اخبارية عن القتل والفقر والمجاعات، وملحقة باعلانات تثبت لك كم انت محروم ومظلوم اذا لم يكن لديك ما لدى المستر مردوخ او المستر تورنر.

تمكنك من ان تصبح من تريد لكنها تجردك مما تملك، وماذا تملك؟ تملك الشيء الوحيد الذي لن يستطيع المستر مردوخ الحصول عليه: الطمأنينة وراحة البال والقناعة.

لذلك كتب جيرالد دي غوري وهو مستلق في صحراء نجد اوائل القرن الماضي، يقول انه يغبط البدوي على ذلك الهدوء ويتمنى ألا يعود الى ضجيج الحياة في بريطانيا. من هنا ارتبطت فكرة التقاعد بالريف والهدوء وتعويض النفس عما فاتها في ضرورات العمل. وعندما اقابل المعمرين في قريتي أشعر انهم يجرون خلفهم مائة عام من الصلابة والبأس ونوم التاسعة وغياب الدش الذي ينقل اخبار «سكاي» او أي اخبار أخرى، انها ايضاً حياة أهل المكسيك قبل عبور الحدود الى تكساس، وفقاً لدراسة المستر فيغا، وكان الاتحاد السوفيتي في الماضي يباهي بكثرة معمريه، خصوصاً في جبال القوقاز، وكان يُطرح عليهم سؤال تقليدي حول سر العمر ويردون بجواب تقليدي: اللبن ثم اللبن. أما السبب الآخر الذي لم يكونوا يفصحون به، فهو ان ستالين لم يعرف بوجودهم. ولا بيريا.