شقة وقناة السويس

TT

كلما اجتمع رجلان (او اكثر) من عمر معين، كان الحديث عن التضخم وكانت مقارنات بين الاشياء كما هي اليوم وما كانته بالامس، وقد روى رجل اعمال عربي ان ثريا وعائلته تكلفوا نحو نصف مليون جنيه فاتورة الصيف في فندق «كارلتون» في كان. وقال ان الفندق برمته عرض عليه للشراء في الستينات، بالمبلغ نفسه. وفندق «الدورشستر» الذي اشتراه مستثمرون لبنانيون وخليجيون اواخر السبعينات بما هو دون العشرين مليون جنيه، هو الآن غير خاضع حتى للتسعير. اي اذا قرر سلطان بروناي غدا ان يبيعه فلن يجد لجنة قادرة على تخمين سعره. وفي الصحف البريطانية اعلانات عن شقق من غرفتين في المبنى المجاور للدورشستر. الثمن: 1.5 مليون جنيه. وكان نابوليون بونابرت قد تخلى عن فكرة شق قناة السويس، لأن المشروع سيكلف تماما مليوناً ونصف المليون جنيه ويتطلب 10 آلاف عامل ويستغرق 4 سنوات. تخيل وقارن: شقة في بارك لين او قناة توفر على الاوروبيين ثلاثة آلاف ميل من الابحار والعواصف. ولست اعرف كيف يقيس الاقتصاديون نسبة التضخم. فهم يقولون انها ارتفعت، مثلا، 0.85% خلال عام، وفي الوقت نفسه يصبح ثمن السيارة 200 ألف جنيه وثمن 40 مترا من العمار نصف مليون جنيه وثمن العشاء للشخص في المنطقة نفسها اكثر من مائة جنيه، في حين ان الملكة فيكتوريا اضطرت للاقتراض من «السوق» من اجل ان تشتري «حصة» في قناة السويس، التي عاد فشقها الفرنسي دوليسيبس، مغيرا الاستراتيجية البحرية في التاريخ، تماما كما غير الايطالي ماركوني تاريخ الملاحة عندما اخترع الاتصال بالراديو في القرن التاسع عشر. لكن السنيور ماركوني ضحية التضخم الآن، مثله مثل سواه، والاسهم في الشركة التي تحمل اسمه تهزها عواصف البر لا البحر. وعندما اخترع ماركوني الاتصال اللاسلكي عبر المسافات، كان ذلك تماما مثل ثورة الانترنت اليوم. وحال شركات الانترنت الآن مثل حال «ماركوني». وكل ما يصعد سريعا يهبط سريعا. وقد جمع جورج بوش الأب 14 مليون دولار في عشرة اشهر من شراء اسهم بمائة الف دولار في عالم الانترنت. واذا لم يكن قد باعها آنذاك فهي تساوي الآن 1400 دولار. اذا كانت لا تزال في التداول.

لم يعد هناك اي معنى للارقام في عالم اليوم. لقد «بيع» زين الدين زيدان بـ65 مليون دولار. او فرنك. او جنيه. لا اذكر. وكنت قد ذكرت في زاوية سابقة ان سعر الدقيقة الاعلانية في مباريات كرة السلة في اميركا هو 20 مليون دولار. وقد تلقيت بعدها من الزميل سمير صنبر، عمدة نيويورك غير المعلن، رسالة يوضح فيها ان الرقم الحقيقي خلال المباريات الكبرى هو 200 مليون دولار. ولذلك اقتضى التنويه. او التصحيح.

يعنينا من كل ذلك، السؤال الذي يطرحه جميع الآباء: كيف يستطيع اولادنا، في ارقام اليوم، تأسيس اي شيء لهم. واين؟ وما هي الرواتب التي تتناسب الآن مع ضرورات المعيشة ومتطلبات الحياة؟ لن يذهب جميع الناس طبعا للسكن في «البارك لين» او لتمضية فصل الصيف في «الكارلتون» مع الابناء والاحفاد والعمال، ولكن مع ذلك تبدو ارقام اليوم بلا اي مقاييس ومن دون اي منطق اقتصادي. ففي اسعار اليوم هجر البريطانيون لندن الى الريف القريب. والآن يهجرون الى الريف البعيد. وغدا تضم البارك لين الى سلطنة بروناي.