ردة إغريقية في الغرب

TT

هل يعود الغرب إلى أصوله الإغريقية؟

ربما يبدو هذا سؤالا غير جاد ـ ولكنه ليس كذلك، وما يشهد على انه سؤال في موضعه هو هذا الاندفاع الذي لا يقاوم نحو اجراء التجارب العلمية: الاستنساخ، تطوير الخلايا الجذعية والتعديلات الجينية التي ترمي الى تغيير اساسيات الوجود الانساني. وحتى وقت قريب كانت الطبيعة هي مركز اهتمام العلوم الغربية، ولكن هذه العلوم تركز الآن على الانسان. ويدور الحديث هنا عن «تصميم» الاطفال، ونهاية المرض، وفي نهاية المطاف، «الغاء» الموت.

تمثل الحضارة الغربية تركيبة من التراثين الاغريقي والروماني، ومن النسخة المسيحية للاديان الابراهيمية. وشهدت هذه التركيبة توترات عديدة خلال الالفي سنة المنصرمة. وقد حاول توما الاكويني، الذي يوصف بانه الاكثر ذكاء من بين رجال الدين المسيحيين، إزالة تلك التوترات بصياغة اساسيات الايمان المسيحي بلغة الفلسفة الاغريقية. وكانت نظريته ان الفلسفة والدين يمكن، بل يجب ان يتعايشا ويكملا بعضهما البعض. ثم جاءت محاكم التفتيش التي اعتبرت الفلسفة، واعتبرت العلم كفرع من فروعها متناقضين مع مقتضيات الايمان. ولكن العجلة عادت للدوران من جديد مع عصر التنوير فوجد الايمان نفسه في موقع الدفاع. وتصور رابلي ان من الممكن انشاء كنيسة يكون شعارها «افعل ما بدا لك» فقفز قفزة بلغ مداها 1500 سنة ارجعته الى اليونان القديمة. وذهب كامبنيلا في كتابه «مدينة الشمس» خطوات ابعد باستبداله ما وصفه بالرؤية الالهية بالخيال الانساني.

وكانت الثقافة الاغريقية القديمة تقرن الميثولوجيا بالفلسفة. اما المسيحية فتقوم على الايمان واللاهوت وجدليات الخير والشر، لم تكن معروفة للاغريق الذي كانت «آلهتهم» الاولمبية قادرة على فعل الخير والشر في نفس الوقت، وكما يحلو لها ونتيجة ذلك لم يكن بامكان هذه الالهة ان تطالب البشر بمنظومة مختلفة من القيم. ولكن تلك الالهة لم يكن يزعم لها انها خلقت الكون، فلم يكونوا اكثر من «ادارة» له، اذا جاز لنا ان نقول، ولذلك كانوا مواجهين دائما باحتمالات الثورة من قبل البشر. وقد تجاهل الاغريق مقولات مثل «الشيطان»، و«الخطيئة» و«الجنة والنار» و«الخلاص»، التي ادخلتها المسيحية الى اوروبا، وبدرجة اقل اليهودية.

ولا جدل في ان آلهة الاغريق كانوا اكثر سطوة من البشر. ولكن البشر كانوا قادرين في بعض الاوقات على خداع «الالهة»، والانتصار عليها وهكذا خدع ابوللو واقتنع بان يصبح عبدا ببلاط الملك ادميتوس لبعض الوقت. كما تمكن البشر كذلك من اشعال الفتنة بين الآلهة انفسهم والوصول الى نتائج مذهلة. وفي حرب طروادة كان الاعتقاد السائد بان مصائر المعسكرين تتغير بتغير امزجة الآلهة. الاهم من ذلك انه لا يوجد قدر. كان ذلك عالما يمكن ان يحدث فيه اي شيء والالهام الجوهري للانسان كان روح «التميز والكمال» (اريتي) ويحقق الجندي درجة «الاريتي»، عندما يصبح افضل جندي يمكن تصوره. ويحققها الشاعر بكتابة افضل الاشعار. لم يكن هناك ثمة حدود للخيال والتأمل والتجارب. وكما يقول ارسطو: عدد الاسئلة التي يمكننا اثارتها يحدده مستوى معرفتنا الحال.

والفلسفة لا تتوافق مع الايمان، لان الاولى تقوم على الشك بينما يقوم الثاني على اليقين المطلق. ولا تملك الفلسفة سوى اراء يمكن ان تتغير مع الزمن، وان تراجع او تنبذ كليا في ضوء التجربة او التميز. وبالمقابل يملك الدين معتقدات لا يمكن تغييرها، وثوابت لا يمكن ان تخضع لارادة البشر او اهوائهم. وبمجرد ايمانك بهذه الثوابت فإنك ملزم بالمحافظة على هذا الايمان الى الابد.

كان الاغريق يتوقون دائما لمعرفة كيف ولماذا؟ والمسيحيون، وخاصة بعد مجمع نيقيا، كانوا يتوقون لمعرفة مَنْ واين؟ فيما يقول الاغريقي: برهن ما تقول، اثبته لي.

ويقول المسيحي: اورد النص. ما هي حجتك؟ وبالنسبة للاغريق ليس ايراد نص من احد الثقات سوى بداية للحوار.

اما بالنسبة للمسيحي فإنه يعتبر النص خاتمة الحوار. والاغريقي يتعامل مع الكتب كأشياء ميتة.

قال افلاطون: الكتاب لا يرد. وهذا هو السبب في ان الفلاسفة الاغريق العظام، من فيثاغورس الى هراقليط الى سقراط، لم يؤلفوا الكتب. افلاطون الف الكتب ولكنه فعل ذلك في شكل حوارات بحيث تجد الحجة الاولى ردا مباشرا عليها من حجة مضادة.

اما المسيحية فتعتمد على النصوص المقدسة، او الكتاب المقدس والكتابات المسيحية وحيدة الجانب، وبالضرورة وحتى الاكويني وايكارت اللذان كانا على درجة من القسطاس تحملهما على احترام مخالفيهما في الرأي، لم يسمحا لهؤلاء الخصوم بالتعبير المباشر عن انفسهم. طرح اوغستين صيغة افلاطونية للمسيحية، وصاغ الاكويني صيغة ارسطوية لها.

وقد استطاعا معا ان يمكنا الغرب من صياغة تركيبة بنيت على مساومة وحل وسط، بدا مضطربا في البداية، ولكنه استمر لمدة قرون.

عصر التنوير، اي ما يسمى بعصر العقل والعقلانية، وما تبعه من ثورة صناعية، كشفا هشاشة ذلك الحل الوسط. ورغم ذلك فإن المسيحية استمرت في المحافظة على موقعها كركيزة اساسية من ركائز الحياة الغربية لانها قدمت وقبلت كثيرا من التنازلات التكتيكية وعلى جبهات متعددة. وطالما انحصرت تدخلات العلم في العالم المادي، فإن الكنيسة كانت مستعدة للاشاحة بوجهها، مع التمني بان تكون العواقب سليمة! ولكن العلم الآن يريد ان يتجاوز الحدود المادية ويدخل ساحات لم يكن يرتادها، وهو يرفض قانون المناطق المقفولة امامه. اصبح الدين بالنسبة للعلم مجرد آراء او «بضائع روحية» في سوق عالمية للافكار، فالطوائف التي تكونت في اللحظة والتو تجد نفس المعاملة التي تلقاها اقدم الاديان في العالم.

ان الغرب يعود الآن الى اصوله الاغريقية ليتبنى مفهوما ثوريا بحق: وهو انه لا توجد محظورات، وان كل النظم الاخلاقية تقوم على الفرضيات، وان الاديان في نظره، ليست سوى آراء تستحق جميعا نفس القدر من الاحترام. واذا وضعنا المسألة في ابسط صورها لقلنا: يكفي ان نتبنى اي معتقد ليصبح مقبولا بالنسبة الى الاخرين في الغرب.

حاولت بعض الكنائس في الغرب ان تتأقلم مع هذه الاوضاع بطرح معتقدات بلا محتوى ايماني، فالكنيسة الانجليكانية مثلا، قالت في منشور اصدرته مؤخرا انه لم يعد من الضروري الايمان بكل الثوابت المسيحية حتى تعتبر مسيحيا. وهي تشرح ذلك بان المسيحية اصبحت منهجا للحياة، وتوجها، وليست عقيدة. وحتى الفاتيكان وان كان ما يزال يعارض الاجهاض و«الانحرافات» الجنسية، تراجع في عدة قضايا اساسية، واعاد الاعتبار لغاليليو.

هل خسرت المسيحية معركتها مع روح الغرب الاغريقية؟

يبدو ان الجواب، حاليا على الاقل، هو نعم. فالمسيحية لا تستطيع ان تقول «لا» لكل اكتشاف علمي جديد او تجربة علمية جديدة، وخاصة ان هذه التجارب ذات الاهداف المحددة مرتبطة بمصالح مادية ضخمة. ولكن الموافقة على كل شيء او تبني تكتيكات النعامة، لا يمكن ان تكون سياسة صائبة هي الأخرى. في الولايات المتحدة قام الرئيس الذي فاز باصوات المسيحيين الاصوليين الذين انحازوا اليه بصورة كاسحة، بفتح الابواب امام ابحاث الخلايا الجذعية، مما قضى على واحد من اكبر المحظورات في المسيحية، وفي ايطاليا شرع طبيب في استنساخ البشر في معمل قريب من مقر اقامة البابا. وتوضح استطلاعات الرأي ان الرأي العام الغربي يؤيد هذه التجارب العلمية باغلبية كبيرة، على امل ان تؤدي الى القضاء على الامراض واطالة الحياة. فالاعمار الطويلة والحياة السعيدة اصبحت هي الهدف الاسمى للمجتمعات الغربية الغنية.

كان الاغريق القدماء اكثر حكمة من احفادهم الروحيين الحاليين. فالمقاومة الفعالة لهذا الهوس المشهود بالقضايا الصحية، والاعمار الطويلة والسعادة، يمكن ان ينبثق ايضا من تعاليم الفلاسفة الاغريق القدماء. فقد قال لامبليكس، بما يشبه المزاح، ان الدعوة لشخص ما بالعمر الطويل، دون اعتبار لظروفه الخاصة، يمكن ان يكون شبيها باللعنة. وهل يمكن نسيان مقولة سولون الشهيرة، التي اوردها هيرودوتس، انه لا يمكن اعتبار شخص ما سعيدا حقا إلا بعد موته؟!.