الفيدرالية.. حل واقعي لمشكلة حقيقية

TT

ازداد الحديث خلال السنوات الأخيرة في منطقتنا العربية وأجزاء أخرى من العالم عن الفيدرالية وباتت قوى اجتماعية وسياسية كثيرة تتبناها وتطرحها كحل لمشكلة الحكم، خصوصا في البلدان متعددة الاعراق والقوميات كالعراق والسودان، وكبديل عن الدولة المركزية غير العادلة من جهة وعن الكيانات المتفرقة الصغيرة من جهة أخرى. ويمكن القول ان النموذج الفيدرالي اضحى يلقى الاستحسان في اصقاع مختلفة من العالم حتى في البلدان التي لا تتوفر فيها بعد المقومات الضرورية لقيام مثل هذا الشكل من التنظيم. فما هي إذاً الفيدرالية؟ وهل لها شكل واحد وهل هي وصفة جاهزة يمكن تطبيقها في كل مكان لتحل محل الدولة المركزية؟

ولا بد أولا من القول ان الفيدرالية هي المبدأ التنظيمي لجماعات سكانية منتظمة يسود التساوي بينها في درجة الاستقلال ضمن اطار كلي سياسي تنتظم داخله هذه الاجزاء: والسمة الاساسية لهذا النظام هي ان الاعضاء كلاً على حدة وكذلك الكل الموحد يكون من جهة مستقلا وقائما بحد ذاته ومن جهة أخرى وفي نفس الوقت مرتبطاً ببعضه البعض ارتباطا شديدا. وغالبا ما يطلق على مبدأ الارتباط هذا «التعدد في الوحدة». وتجدر الاشارة هنا الى ان هناك اشكالا من الفيدراليات تطغى فيها سمة التعددية على حساب الوحدة (سويسرا)، في حين تسود هذه الوحدة في نماذج أخرى على حساب التعدد (ألمانيا). وفي كل الاحوال يفترض النظام الفيدرالي وجود درجة معينة من التجانس بين الاجزاء الاعضاء في هذا النظام، فانعدام الحد الادنى من التقارب والتشابه يجعل تحقق شرط الوحدة أمرا مستحيلا. والى جانب التشابه والتشارك في المصلحة والقناعات العامة تفترض الفيدرالية وجود خصوصيات للاجزاء المختلفة من شأنها ان تمنع انصهار الاجزاء كليا داخل دولة الوحدة. وهكذا فمبدئيا يمكن تصور الفيدرالية على انها هيكل تنظيمي ذو قطبين يمثل أحدهما النظام الخاضع للدولة المركزية الواحدة في حين يمثل القطب المواجه الاقاليم الاعضاء المستقلة بدرجة لا يمكن معها ان تظهر كوحدة واحدة كلية. واستنادا الى هذا النموذج تظهر الفيدرالية على انها جسم كبير يتحرك في مجال هذين النقيضين ويهدف الى تحقيق التوازن بين الكل من ناحية والاجزاء من ناحية أخرى.

وفي حين يصف مصطلح الفيدرالية مبدأ معينا للتنظيم فإن مصطلح الدولة الاتحادية يشرح صيغة ارتباط الاقاليم الاعضاء مع بعضها بعضا داخل هذا النظام. والدولة الاتحادية هي نظام دستوري لدولة القانون تضم اقاليم اعضاء غير ذات سيادة والدولة الاتحادية الدستورية بمجملها هي الوحيدة التي تتمتع بالسيادة، ويضمن الدستور الفيدرالي للدولة ككل وللاعضاء ايضا شكل الدولة من حيث توزيع المهام والصلاحيات بين مؤسساتها بعكس الدولة المركزية التقليدية التي تنفرد وحدها بالصلاحيات، فالدولة الاتحادية هي دولة اتحاد قانوني يربط اقاليم بدون سيادة، في حين تتمتع هي مجتمعة في اطار الدولة المركزية التي تكونها بالسيادة، ولكي تقوم الدولة الاتحادية فهناك العديد من المستلزمات الواجب توفرها، منها ان تتمتع الاقاليم الاعضاء بسلطات خاصة بها تتحمل هي مسؤولية اتخاذ القرارات بشأنها، وأن تتمتع هذه الاقاليم باستقلالية سياسية ومالية مناسبة حتى تتمكن من تنفيذ السياسات والبرامج الداخلية التي تقرها، كما يجب ان يضمن الدستور امكانية مشاركة الاعضاء في رسم توجهات السياسة العامة للدولة المركزية. وتظل هناك خاصية اساسية في شكل تنظيم الدولة الاتحادية لا يتوفر في صيغ التنظيم الأخرى وهو ان الطرفين، الكل والاجزاء، لا يمتلكان الحق أو السلطة للتلاعب بصلاحيات بعضهم البعض ولا يمكن ادخال التعديلات أو التغيرات إلا بموافقة متبادلة. ويتولى الدستور الاتحادي مهمة حماية الجزء والكل ويضمن المشاركة الفعالة للجميع وهذا ما يمكن ان نسميه ازدواجية مركز القرار. وبما ان الفيدرالية ليست مبدأ تنظيم داخل الدولة الواحدة فحسب وإنما بين الدول المختلفة فتظهر الحاجة لتوضيح مصطلح «اتحاد الدول الكونفدرالي» الذي يصف وجود دول متعددة ذات سيادة في اطار اتحادي على أساس اتفاقية تقرها هذه الدول. وتبقى الدول الاعضاء دولا مستقلة ذات سيادة يمكنها الخروج من هذا الاتحاد متى رغبت في ذلك وعلى هذا الاساس يعتبر هذا الاتحاد رابطا مرنا غير ملزم. وشهد التاريخ الحديث تحول هذا النوع من الاتحادات (الكونفدرالية) الى الفيدرالية كما حدث في امريكا عام 1787 حين لم تعد الكونفدرالية (1781 ـ 1787) ذات الصيغة الاتحادية الضعيفة قادرة على النهوض لمواجهة التحديات الاقتصادية والسياسية الكبيرة التي تبلورت عقب حرب الاستقلال عن التاج البريطاني، وتعتبر سويسرا مثلا واضحا آخر في نموذجها الاتحادي للفترة بين 1815 ـ 1848، كما يدخل الاتحاد الألماني للفترة بين 1815 ـ 1866 في هذه الفئة. ولعل اقتناع العديد من الدول بصيغة النظام الفيدرالي وتطبيقه بنجاح بتوفر المقومات اللازمة، في تطمين المتطلبات المتباينة لشعوب هذه الدول، جعل هذا النموذج يكتسب جاذبية جديدة ويطرح نفسه كشعار سياسي تنادي به بعض القوى الاجتماعية التي لم تعد ترى في الدول المركزية صيغة ملائمة للحكم.

وللفيدرالية مزايا ايجابية كما لها سلبيات ايضا. ومن ايجابياتها ان توزيع المهام بين البلدان الاعضاء، يجري وفق نظام محدد، ويخفف من تركز الاعباء على الدولة المركزية ويجعلها قادرة على الانصراف الى المهام التي تقع في صلب اختصاصها. ويرافق توزيع المهام تقسيم للسلطات الثلاث التشريعية والتنفيذية والقضائية بين المركز والاقاليم، كما تقدم الفيدرالية امكانية اكبر لتدريب الكادر السياسي الذي سيتبوأ المراكز القيادية في الدولة حيث الفرص أوسع لجمع الخبرات والتدرج في المناصب المختلفة والالمام بشؤون الدولة في مختلف الميادين. ومن شأن النظام الفيدرالي ايضا ان يساعد على اشاعة جو الانفتاح الداخلي للاحزاب المختلفة وتعميق الممارسات الديمقراطية داخل الاحزاب نفسها، كما تتطور روح المنافسة بين الاقاليم الاعضاء والمركز وبين الاعضاء أنفسهم لتنفيذ البرامج والواجبات الملقاة على عاتقهم في حالة توفر الشروط والصلاحيات المتشابهة للجميع وغير ذلك الكثير من الايجابيات.

وعلى الرغم من الايجابيات الكثيرة للنظام الفيدرالي فهناك ايضا سلبيات منها عيوب في الجانب الاقتصادي، حيث تتمتع اقاليم اعضاء بنتاج جاهز أو هياكل قطاعات خدمية لاقاليم أخرى لم تساهم هي نفسها في انجازه مما يؤدي على المدى البعيد الى نقص في مستوى الخدمات المعنية. اضف الى ذلك تباين الاسعار والرواتب بين الاجزاء المختلفة من الفيدرالية وغير ذلك من النواقص.

ولكن على الرغم من السلبيات العديدة التي ترافق النظام الفيدرالي فإن التوجه العالمي نحو هذا النموذج يزداد يوما بعد يوم رغم ان عدد البلدان التي تمتلك المقومات المادية لقيام الدولة الاتحادية لا يزال قليلا. غير ان هذا الواقع لم يمنع البعض من اتخاذ اجراءات تنظيمية هي بمثابة تحضيرات لنظام فيدرالي مستقبلي غير مركزي بالمعنى التقليدي. ويعود هذا التوجه العام الى المتغيرات العالمية التي شهدها عقد التسعينات من القرن الماضي واستعداد الدولة القومية للتنازل عن بعض الحقوق من أجل انشاء حكومة أو حكومات محلية مستقلة في اطارها لقوميات أخرى على أساس التعاون الاقتصادي والمصالح المشتركة، كما يأتي الادراك العام باستحالة مواجهة المشاكل الكبيرة في مجال البيئة، خاصة بشكل منفرد وراء الاهتمام بالنموذج الفيدرالي الذي من شأنه ان يوحد الجهود والقدرات المادية بدلا من بعثرتها.

ومنذ انهيار الاتحاد السوفيتي السابق ودول أوروبا الشرقية وتكشف زيف الفيدرالية الفوقية التي تصدر بقرار فردي أو مركزي تعزز الادراك العام بأهمية النظام الفيدرالي القائم على الديمقراطية التي يضمنها الدستور والقانون وتشعر فيها القوميات والمجموعات السكانية والدينية والطائفية على اختلافها بالأمان والرغبة الطوعية في العيش المشترك في اطار الدولة الوطنية الكبيرة الواحدة ذات السيادة، وهو أمر من شأنه ان يتيح تنمية هذه الدولة وتطورها وسيادة الاستقرار والسلم الاهلي فيها ويعزز من فعالية تعاونها مع محيطها الاقليمي ومع العالم.

وبصرف النظر عن الاحتجاجات السياسية وآراء السياسيين والمنظرين الذين يدعون الى الفيدرالية أو الذين يعارضون قيامها، يبقى احترام الجانب الشعبي وتجذر الرغبة الحقيقية الطوعية للشعب أو للشعوب المعنية ذات المصلحة هو العامل الحاسم الاساسي، كما تظل هذه الشعوب هي وحدها صاحبة الحق في اتخاذ القرار في اختيار شكل الحكم الذي ترتضيه.

* كاتبة عراقية مقيمة في ألمانيا