نقد المحبة

TT

النقد العائلي يحمل شبهته معه، ويدفعك الى تأكيد وجود المجاملة سلفاً، وعليه فان من حقك ان ترفض مثل هذا النقد إلا إذا اعتبرت النقد الأدبي فعل محبة للنص، وليس للشخص.

وقد خطرت هذه الهواجس على البال أثناء المطالعة الممتعة لنقد الدكتور محسن جاسم الموسوي لرواية أخيه عزيز السيد جاسم «الزهر الشقي».

وعزيز السيد جاسم أشهر من ان يعرف، فقد كان في طليعة المثقفين العراقيين الذين نظروا للنظام العراقي الذي أتى بعد 17 تموز، وكان مقرباً من كبار رجال السلطة كالبكر والرئيس العراقي الحالي وحاشيته ضمن الدائرة المغلقة.

وكان عزيز السيد جاسم الذي اختفى في ظروف غامضة ـ هناك من يقول انه تمت تصفيته نهائياً ـ يحمل مشروعاً لتثقيف السلطة وليس لفرض سلطة المثقف لذا احتفظ بمسافة بينه وبين سياسات النظام، ومع هكذا نظام لا مجال للمناورة فاما ان تكون معنا بالكامل أو انت حتماً ضدنا، وهكذا دفع عزيز السيد جاسم ثمن عدم ادراك المساحة الوهمية لاستقلالية المثقف في ظل الأنظمة الديكتاتورية التي لا تقبل بموالاة ناقصة.

وكان عزيز قبل ان يدفع ذلك الثمن، وقبل ان تشهد جميع العواصم العربية حملة ثقافية لانقاذ رأسه قد أصدر رواية «الزهر الشقي» عام 1988 ونقدها أخوه الدكتور محسن جاسم الموسوي الأستاذ في جامعة منوبة التونسية في كتاب «انفراط العقد المقدسي.. منعطفات الرواية العربية بعد محفوظ» كنموذج لصورة الفنان في الحياة السياسية.

منذ أول سطور ذلك النقد المعجب تحس بحيرة الناقد المغلفة بالموضوعية الأكاديمية، فالرواية ـ كما كتب الموسوي ـ تشكل تحدياً للناقد والدارس لأنها تأتي بثقل تجربة غنية متقاطعة ومشتبكة في رؤية فنية عالية.

والتحدي هنا ـ كما أظن ـ من اللاشعور، وليس من غنى الرواية، فالناقد يعرف انه لا يستطيع ان يشهر مبضعه لتشريح النص كما يجب خصوصاً بعد الظروف المأساوية لغياب أخيه.

ومشكلة رواية «الزهر الشقي» انها رواية مثقفين، وثلاثة أرباع الانتاج الروائي العربي في نصف القرن الماضي من هذا النوع عن المثقف المحبط الذي يعيش في قلب أمة مهزومة، وبالتالي، فان المقارنات قد تكثر وتقدم نماذج أخرى عالجت الحالة باستفاضة اكبر وتعمق وإحاطة لم يتوفر العزيز السيد جاسم الذي كان يعطي جل وقته للعمل السياسي ويقدم السياسة على الفن.

عزيز يظهر منذ اهداء الكتاب حين يقول الموسوي برومانسيته الشفيفة والمفجعة في اهدائه مشيراً الى أمهما «قالت: يا بني هل تراني احتمل النوم على فراش وثير ونحن في هذا الضيم.. الى أمي وعزيز».

ومن شأن هذا الاهداء اذا أضيف الى معرفة عامة بالعلاقة الحميمة التي تربط محسن بعزيز ان يدفع كما اسلفنا الى افتراض غياب الموضوعية، وهي غائبة فعلاً، فتلك الرواية شبه المنسية أخذت من الكتاب عشرين صفحة في وقت أعطيت روايات أهم لروائيين أشهر ربع هذه المساحة، ومع ذلك فقد ظل الفصل الخاص برواية «الزهر الشقي» في كتاب محسن الموسوي يقرأ بمتعة كبيرة، وهنا يظهر الحذق الأكاديمي والمعرفة الموسوعية للموسوي في النقد الروائي، فالناقد يستخدم أفضل أدواته للنصوص التي يحبها، ويعطيها عناية اكبر من غيرها، وفي ظل غياب عزيز السيد جاسم تصغر سلبيات الشخص وتكبر ايجابت الروائي، ويتحول النص النقدي عن روايته الى انشودة أخوية شجية تسربل نفسها بغطاء شبه موضوعي لنفي شبهة التحيز لنص الأخ الغائب.

وهذا القناع لا ضرورة له من الأساس فنحن نكتب بشكل أفضل عمن نحب، والقارئ مهما كانت نوعيته يعرف تلك الحالة ويتعاطف معها ويتحول الى شريك ثالث في مسيرة المحبة الصافية ففي الحب الصافي ـ كما قال عزيز السيد جاسم في روايته ـ الجميع شركاء.