قتل الجثث

TT

نشرت الصحافة العربية، في استهجان واضح، ان السلطات البريطانية المعنية اجلت مرة اخرى اصدار الشهادة الرسمية في وفاة الفنانة الراحلة سعاد حسني. بضعة اشهر والتحقيق جار والشرطة تتردد في ختم شهادة بموت سيدة اجنبية في ظروف غير عادية. ولم اقل غير طبيعية. لان السقوط من الشرفة في «مايدا فيل» قد يكون غير عادي، انما للاثبات انه «غير طبيعي» كذلك فهذا امر آخر. كل مسألة لها تعبير وكل شبهة لها صفة. وفي النهاية لا يُقطع في الامر الا بعد دراسة كافة المعطيات، والقرائن، والظروف، وبقع الدماء، والثياب، وبلاط الارض في «مايدا فيل»، وتاريخ سعاد حسني الطبي، واحتمال السقوط العفوي، في مثل حالتها الجسمانية وعدم احتماله، واحتمال الانتحار، وهل لها طاقة عليه. وألف سؤال آخر. او بالاحرى الف الف.

في المقابل صدر في العالم العربي الف حكم قاطع في وفاة سعاد حسني قبل وصول جثمانها الى مصر. وتحولت السيدة التي رافقت الجثمان من صديقة الى متهمة بالقتل: اما «بدافع الحصول على مجوهرات سعاد او على مذكراتها». ويقول الزميل محمود عوض في مقال ماتع عن وفاة النجمة ونهاياتها المحزنة، ان سعاد حسني لم تكن تجمع المجوهرات ولا تحبها، اما المذكرات فهي لا تكتب، لكن الاحكام في موت سعاد حسني لم تتوقف. كل يوم نظرية قاطعة. وكل يوم سبب جديد ومختلف. وكل يوم يتحول فهلوي جديد الى شرطي ومحقق وطبيب تشريح وخبير نفسي وعالم اقتصاد.

والضحية دائماً امرأة مسكينة بسيطة كان اسمها سعاد حسني، قتلت بالشفقة وهي حية وقتلت بالنظريات البوليسية بعد وفاتها. وكنت في العامين الماضيين كلما قرأت «دفاعاً» حماسياً عنها اشعر بالحزن لسيدة لا اعرفها، وادعو لها بالنجاة من حالها الصحية والنفسية ومن الاصدقاء الذين تبرعوا للدفاع عنها. واسوأ انواع الدفاع هو ان تنقل الاشاعات ثم تنفيها بداعي الحرص على ضحاياها. اذ هكذا يتحول كلام الصالونات وهذر السخفاء الى حقائق. وهكذا نزرع الشكوك والظنون حول انسان ندعي محبته والتعاطف معه. وكانت سعاد حسني، مثل جميع الضحايا في مثل هذه الحالات، سيدة عزلاء، منسية، بعيدة عن دفء القاهرة واصدقاء السنين في «مايدا فيل» التي هي بعيدة ونائية حتى في قلب لندن. كانت غير قادرة على الردّ. وليس لها طاقة نفسية على التصدي لكل اشاعة وكل «دفاع» وكل «غيرة».

واذا قبلنا انه ليس للفنان حرمة وهو حي، لانه ملك الناس، ولانه سريع العطب، وقابل للقتل بالاشاعة اكثر من سواه، خصوصاً اذا سقط في الفقر والعزلة والنسيان، فماذا عن حرمته وهو ميت. وماذا عن الذين سمحوا لانفسهم، وهم لا يعرفون لندن ولا سعاد حسني ولا حياتها ولا اصدقاءها الاخيرين، ان يقرروا كيف ماتت او كيف رميت من الطابق السادس في «مايدا فيل» او في لحظة قررت الانتحار او قُرر لها ذلك.

يحتمل الموت في الظروف غير العادية فرضيات كثيرة. واحتمالات شتى. وتزداد الفرضيات والاحتمالات اذا كان الميت سيدة تحولت من نجمة مرصعة في سماء مصر الى نجمة آفلة في ضباب لندن. ومن فنانة ثرية تلاحقها الاضواء الى متقاعدة فقيرة تهرب منها الاعتام. لكن حتى الفرضيات تحتاج الى قرائن. حتى التخيل يحتاج الى مستند. حتى الظن يحتاج الى معادلة او ذريعة. لكن كل تلك الفرضيات كتبت في العالم العربي على انها حقائق قاطعة ودلائل محسومة. وتحول المبلغ الذي قيل ان الحكومة المصرية دفعته لعلاج سعاد حسني من 85 ألف جنيه استرليني الى مليون ونصف المليون. والحقيقة الوحيدة حتى الآن ان سعاد حسني قصة محزنة كتب فصولها الاولى الشعراء الحالمون وتركت نهايتها للانفس المريضة.