هل إسرائيل لها مستقبل؟.... ولكن ليس كدولة دينية وعرقية

TT

يحكي فيلم «قدوس» الاسرائيلي قصة شقيقتين تنتميان لطائفة اليهود الحاسيديين في القدس القديمة ويحتوي على مشهد تواجه فيه الرغبة في الحرية الوضع الراهن.

تواسي مليكة، وهي امرأة شابة ترغم على الزواج من اصولي يهودي تكرهه، شقيقتها الكبرى ريفكا التي طلقها زوجها لأنها لم تستطع انجاب ابن ذكر يقرأ التلمود. تقول مليكة لشقيقتها: «نحن نختنق هنا يا ريفكا، عالمنا هنا ليس هو العالم الوحيد فهناك عالم اكبر حجما يمكن ان نجد فيه الحرية».

هل الشعور بالاختناق امر قاصر فقط على جيل جديد من نساء طائفة اليهود الحاسيديين؟

ربما.

غير ان الحقيقة هي ان العدد المتزايد من الاسرائيليين الذين يخرجون على ما تطلق عليه مليكة «عالمنا هنا» بارتياد عالم اكبر حجما تمثله في الغالب الولايات المتحدة. كانت تفقد اسرائيل عددا يتراوح بين 18000 و20000 شخص سنويا بفعل الهجرة. كما ان موجة العنف الحالية ضاعفت هذا العدد، حتى ألمانيا بدأت تجتذب الاسرائيليين الذين يبحثون عن «عالم آخر»، فقد توجه خلال الاعوام الثلاثة الاخيرة حوالي 10000 يهودي بغرض المطالبة بالجنسية الالمانية بأن اجدادهم ولدوا هناك قبل الحقبة النازية.

لم تكن القيادة الاسرائيلية تهتم كثيرا حتى نهاية الثمانينات بفقدان عدد من السكان سنويا، اذ ان ما يقدر بـ2.8 مليون يهودي كانوا يعيشون في ذلك الوقت في الاتحاد السوفياتي السابق كانوا يعتبرون بمثابة احتياطي سكاني لاسرائيل. وخلال حقبة التسعينات اجتذبت اسرائيل حوالي 1.5 مليون مواطن جديد من الكتلة السوفياتية السابقة. وفي العام 1993 اعلن رئيس الحكومة الاسرائيلي في ذلك الحين، اسحق شامير، ان اسرائيل نجحت في ترجيح كفة الميزان السكاني لصالحها. منذ ذلك الحين تواصل «النزيف» السكاني، فقد غادر اسرائيل ثلث القادمين الجدد من الكتلة السوفياتية السابقة باتجاه الولايات المتحدة عقب استخدامهم لاسرائيل كجسر للعبور كما ينتظر آخرون جمع قدر من المال للحصول على تأشيرة، علاوة على ان نصف مواطني اسرائيل حاصل على جنسيتين او ثلاث جنسيات.

وفي نفس الوقت، فإن اسرائيل تأثرت بـ«الخمول السكاني»، اذ تعاني، مثل بعض الدول الاوروبية، من تراجع معجلات الولادة، فالأسرة الاسرائيلية العادية لا تنجب نسبة الـ2.1 من الاطفال اللازمة للابقاء على مستويات السكان الحالية. وطبقا للتوجهات الراهنة، فمن المحتمل الا تكون في اسرائيل اغلبية يهودية خلال فترة ثلاثة عقود. وتشير دراسة اجراها آمون صوفر بجامعة حيفا الى ان الفلسطينيين سيشكلون نسبة 58 بالمائة من اسرائيل والاراضي المحتلة خلال فترة 18 عاما المقبلة. وباستثناء الاراضي المحتلة سيشكل الفلسطينيون نسبة 32 في المائة من جملة عدد السكان بنهاية عام 2020، اذ سيمثلون ثقلا انتخابيا معتبرا خصوصا في اطار نظام التمثيل النسبي في اسرائيل. وتشير توقعات صوفر الى وجود اغلبية فلسطينية في اسرائيل خلال فترة ثلاثة عقود من الآن.

هذا هو السبب في احاديث شارون المتواصلة عن امله في وصول مليون يهودي على الاقل للاستيطان في اسرائيل، ولكن من اين يأتي هؤلاء؟ اليهود الاوروبيون والاميركيون ليست لهم رغبة في ما يبدو، اما في الأماكن الاخرى، فإن بقايا الجاليات اليهودية اصغر من ان تشكل موجات هجرة كبيرة، فأكبر جالية يهودية خارج اوروبا واميركا الشمالية توجد في ايران (75 الف شخص)، غير ان هؤلاء لا يفكرون في مغادرة ايران، وحتى اذا فعلوا فان وجهتهم المفضلة هي كاليفورنيا وليس اسرائيل.

اذا تركنا الاحصائيات جانبا، يتضح لنا ان اسرائيل تعاني من «رهاب الاحتجاز»، فهي دولة صغيرة تساوي مساحتها ما يقدر بحوالي 1 في المائة من مساحة المملكة العربية السعودية، كما انها تقع في منطقة معادية. مداخلها للمنطقة محدودة ايضا وليس امامها سوى ربط نفسها باوروبا حيث ولد العداء للسامية ولا يزال يعيش في الزوايا المظلمة للعقل الباطن.

وكما يقول الروائي الاسرائيلي آموس عوز، فإن الحياة في اسرائيل ليست ملهاة. فالاقتصاد تسيطر عليه الدولة على نحو اقرب الى النموذج السوفياتي، ومن النكات الرائجة الآن ان الذي يريد ان يكون ثروة صغيرة في اسرائيل عليه ان يصل وهو يملك ثروة كبيرة، يضاف الى ما سبق ان باسرائيل واحدة من اعلى نسب الضرائب في العالم بسبب الحاجة الى تمويل آلة الحرب المكلفة، وكما برهنت تجربة جنوب لبنان فإن آلة الحرب لا تضمن الانتصارات. الكشف عن امتلاك اسرائيل لترسانة نووية تسبب في اثارة مخاوف العديد من الاسرائيليين، ذلك ان اسرائيل تملك مخزونا نوويا يقدر بحوالي 200 قنبلة نووية، كل واحدة منها اقوى من عشرة اضعاف القنبلة التي القيت على هيروشيما، غير ان وجود هذه القوة النووية الضخمة في دولة صغيرة مثل اسرائيل ينذر بوقوع كارثة ضخمة في حال وقوع مجرد حادث، دعك عن اندلاع حرب.

قضاء الشباب فترة عامين من حياتهم على الاقل في الخدمة العسكرية اثار ولا يزال استياء واسعا وسط الطبقة الوسطى الجديدة التي تنظر الى الولايات المتحدة واوروبا كنموذج. علاوة على ذلك، يشعر الليبراليون بانزعاج كبير من جراء تزايد نفوذ اليهود الاصوليين والفساد الذي جلبوه الى داخل الحكومة. ولعله نوع آخر من ان اسرائيل تعاني من «رهاب الاحتجاز» الذي كان اساسا للمبررات التي قامت على اساسها الاجندة النازية، أي ان اليهود كانوا يبحثون عن «مكان للعيش» حيث تتنفس وتنمو الامة الالمانية. اسرائيل ايضا في حاجة الى «مكان للعيش» لكنه على حساب الفلسطينيين، ولهذا السبب كان يحلم مؤسسو الصهيونية بدولة تمتد من النيل الى الفرات. غير ان فرص تحقيق هذا الحلم ضعيفة للغاية.

عملية كسر «رهاب الاحتجاز» لا تتطلب توصل الاسرائيليين الى سلام مع الفلسطينيين فحسب، بل الى التوصل الى سلام مع قلوبهم. هذا الامر ليس بالسهولة التي يتخيلها البعض، ذلك ان اتفاق السلام الذي توصلت اليه اسرائيل مع مصر حدث قبل ما يزيد على عقدين من الزمن، غير انه في ما يتعلق بالصلات بين مواطني الدولتين، فالوضع يبدو وكأنهما يعيشان في كوكبين مختلفين.

عملية زرع مجموعة وسط اراض معادية لم تخترعها اسرائيل، ذلك ان تاريخ الانسانية يعج بأحداث مشابهة، وفي كل حالة يحدث واحد من ثلاثة اشياء.

ففي غالبية الحالات يذوب القادمون الجدد تدريجيا في واقع بيئتهم، مثل الآريين الذين استقروا في الهند. يضاف الى ذلك ان للاغريق الاصليين تجربة مماثلة عندما بدأو في التدفق باتجاه مناطق حول بحر ايجه. وفي بضع حالات اخرى كانت اعداد القادمين الجدد كبيرة الى درجة ادت الى محو السكان الاصليين كما حدث في غزو الاوروبيين لاميركا الشمالية. الاحتمال الثالث يتلخص في الاختلاط بين القادمين الجدد والسكان الاصليين مثلما حدث في بعض مجتمعات اميركا الجنوبية.

ترى، أي من هذه الحالات ينطبق على اسرائيل؟

لا يمكن ان تذوب اسرائيل في الواقع العربي الواسع لأن مبرر وجودها قائم على اساس الحفاظ على الشخصية اليهودية، كما لا يمكن ان تقبل اسرائيل العرب لان الديانة اليهودية غير مفتوحة لاصحاب الديانات الاخرى، فهي بمثابة بيت يملك من يعيش فيه حق المغادرة لكنه غير مفتوح امام الغرباء. ظهرت الحركة الصهيونية في القرن التاسع عشر عندما كان للقومية رواج في اوروبا. مولد الصهيونية كان في فينا عاصمة الامبراطورية التي لم تشهد أي احقاد قومية. باتت الصهيونية توليفة مكونة من نقاط ضعف ظاهرة القومية من ناحية والظلامية الدينية من الناحية الاخرى.

القومية مذهب علماني يرفض الفوارق الدينية باسم الواقع السامي لـ«الأمة». وفي نفس الوقت فتحت القومية ابوابها لكل من يريد الانتماء لقومية معينة. الدين لا يعترف بالقومية ويمقتها. الدين والقومية يمكن ان يتعايشا فقط في حالة اعتبار الدين مسألة خاصة بالفرد والقومية مسألة تتعلق بالمجتمع. لذا، فإن الصهيونية وحدة للمتضادات تحاول ان تجمع بين واقعين متعارضين. ففي هذه الحالة نجد امامنا النموذج الثالث، أي ضم اسرائيل الى واقع جديد مختلط، مما يتطلب فتح الاراضي العربية امام الدولة اليهودية. بعض السياسيين الاسرائيليين أشاروا الى ذلك، ومن بينهم شيمعون بيريس، ففي كتاب نشر في التسعينات قال بيريس ان اسرائيل ستزدهر فقط اذ وجدت لها مكانا كجزء «مقبول» من المنطقة. ويحلم بيريس بأن تكون اسرائيل «دماغ» المنطقة من المغرب الى عمان ويضع الدولة اليهودية في قيادة ما يمكن ان يصبح مستقبلا منطقة اقتصادية استثنائية. وبمعنى آخر ستحصل اسرائيل على امبراطورية دون اللجوء للطرق التقليدية.

ان اية امبراطورية ما في حاجة الى انفتاح وتسامح ديني، ولا يمكن لدولة عرقية دينية مثل اسرائيل ان تقدمهما. وامكن لروما ان تصبح امبراطورية لانها لم يكن لديها إلها رسميا ولم تكن مهتمة بالزواج من غير الرومان.

ان اسرائيل هي مشروع يهدف الى تخليد ما لا يمكن، وهو الهوية الدينية والعرقية معا.

ان الامم تعيش وتزدهر عن طريق التغيير، وتضم بين ثناياها قادمين جددا وتتبنى افكارا وأساليب حياة جديدة.

ان الامة عبارة عن عملية صيرورة وليس «وجود» ثابت، اذ ان سر بقاء واستمرارية امة يكمن في شموليتها وانفتاحها، الا ان اسرائيل ناد تقتصر عضويته على مجموعة بعينها ولا يتسم بالمرونة التي تتميز بها الامم الاصلية.

ان الامة هي هواية منفتحة بينما المعتقدات اليهودية هي هوية منغلقة. ان تجمعات اليهود في المجتمعات الاخرى استمرت لأكثر من 2000 سنة، وإن كان بتعديلات بسيطة، لانها ابعدت بين الدين والسياسة. فهم يهود في المنازل او في المعبد، ولكن في الحياة العامة ينتحلون هوية الدولة التي ينتمون اليها.

هل لاسرائيل مستقبل؟

نعم، ولكن ليس كدولة عرقية دينية. ويمكن ، في وقت ما في المستقبل، تشكيل دولة كونفدرالية مع الاردن والدولة الفلسطينية. كما يمكن وجود تجمع اوسع، على الاقل على المستوى الاقتصادي، لضم دول اقليمية اخرى. ومهما يكن فإن فرص اسرائيل في الاستمرار كتجمع مميز يعتمد على قدرتها على التخلي عن حلم الصهيونية وتحويل نفسها الى دولة ديمقراطية تعددية ومتعددة الأديان.

واذا ما حدث ذلك فإن اسرائيل لن تكون ما هي عليه اليوم.