السياق ملائم للتنديد بالاستثناء الذي تمثله إسرائيل في الشرعية الدولية

TT

لعل أقصى ما ينتظر من مجلس الأمن بمناسبة الشكوى الحالية، هو أن يلبي الطلب المتعلق بإيفاد مراقبين، وهي نفس المسألة التي توقف عندها المجلس في 27 مارس الماضي، حيث أحبطت مسألة المراقبين بالفيتو الأميركي. أما إيفاد قوات أممية لتفرض على إسرائيل الجلاء، فإنه من المستحيلات. وأما فرض عقوبات على إسرائيل التي تخالف القانون الدولي في كل جزئياته، فهذا من الخيال.

منتهى ما يطلب عربياً وفلسطينياً وأوروبياً، في الوقت الراهن، هو أن تلتفت الولايات المتحدة إلى ما ترتكبه إسرائيل في الأرض المحتلة. وهذا مستبعد، لأن الرئيس الأميركي متفرغ لصيد السمك، ويمكنه أن يسمع كلاماً في الموضوع بعد منتصف سبتمبر. فالأمر بالنسبة إليه، هو أن الجماعة «يضرب بعضهم بعضاً».

ليست أوضاع الأراضي الفلسطينية المحتلة، في مثل الأسبقية التي لمقدونيا، ولا ألبانيا، ولا العراق، لأن هناك وصاية إسرائيلية قوية على القرار الأميركي. والمسألة الفلسطينية وحدها مستثناة من مقاييس الشرعية الدولية، لأن إسرائيل بقرار أميركي، هي استثناء لا يطبق عليه القانون الدولي، وهي الوحيدة التي يمكنها أن تبقى بلا عقاب مهما بلغ ما ترتكبه من مخالفات، ومن جرائم نهاراً جهاراً.

إن الخطباء الثلاثة والأربعين المسجلين في منصة مجلس الأمن حاليا، لن تعوزهم الحجج والبيانات للتنبيه إلى أن ما ارتكبته إسرائيل في الأراضي المحتلة، يستحق العقاب، وأن ما يقاسيه الشعب الفلسطيني في ظل الاحتلال، يستحق من المجتمع الدولي إيقاف شريعة الغاب.

ليس ما يجري في مختلف الاتجاهات، وعلى مختلف المستويات بأمر جديد. وليست الصعوبات التي تكتنف القضية الفلسطينية هي بنت اليوم، ولن تنتهي غدا، إن ما أوقعنا في الوضع الذي نحن فيه، يرجع في جذوره إلى بعيد، وإسرائيل تتفوق علينا بأنها ذات استراتيجية ثابتة، واكتسبت عبر عشرات السنين مواقع قوية في الساحة الدولية، وعرفت كيف تستخدم أوراقها، بقي علينا نحن أن نستفيد من اخطائنا، وأن نستثمر جيدا ظروف التفهم التي يلقاها الموقف الفلسطيني في الظرف الراهن، وهي ظروف مواتية على نحو واسع، لا استثناء هناك إلا في الساحة الأميركية.

إن هناك شعورا عاما بالتبرم من سلوك إسرائيل حيال الشعب الفلسطيني، يظهر هذا من عشرات المقالات التي تخصصها الصحافة العالمية، للتعبير عن الشعور بالإحباط، إزاء تدهور الوضع بين الفلسطينيين وإسرائيل، بعد أن تراءى للكثيرين أن السلام قد أصبح ممكناً.

وإذا كان لي أن استنبط قاسماً مشتركاً لهذه المقالات التي وقفت عليها في الأيام القليلة الماضية، فيمكنني أن أذكر أنها تلتقي في استنكار البروز الشديد للمتطرفين من الجانبين، والخيبة من فشل استراتيجية السلام في مقابل الأرض، والتعبير عن اليأس من إمكانية ظهور بصيص من الأمل في الأمد القريب.

إني اقصد هنا افتتاحيات في جرائد رصينة، لا تنطلق من العطف على الجانب الفلسطيني، وأقصد أيضا نصوصاً كتبها جامعيون وكتاب وحقوقيون تحركهم الغيرة على السلام، وفي أحيان كثيرة مع شيء من التعاطف مع إسرائيل. وفي كثير من الحالات، تجد هؤلاء يساوون بين المتطرفين من الجانبين، وهذا في حد ذاته يستحق الانتباه.

إن تراجع فرص إقامة السلام في فلسطين، أيقظ في الناس التأمل في أسباب الصراع، والتطور الذي عرفته الأوضاع في الشرق الأوسط منذ 1967، والمنعطفات التي قطعتها مسيرة السلام، حتى الموقف الراهن الناتج عن اقتحام شارون للحرم المقدسي، وعن انبعاث العنف بعد انغلاق الطريق إلى السلام. وقد فرض على جميع من تناول الموضوع في كرونولوجياه المعروفة، أن يسجل أن كلا من الجانبين يتصور عنه خطأ أنه في إمكانه أن يفرض الحل الذي يراه بواسطة القوة.

وقد حث كل ما حدث منذ اندلاع انتفاضة الأقصى منذ عام، الكثيرين على التدبر في أسباب تعثر السلام، والتراجع عما أبرم من اتفاقات، كانت إسرائيل قد سلمت بها بدون إكراه، ولكنها تراجعت عنها.

وإني أعتبر أن ما كتبه الروائي البيروفياني ماريو فارغالس ليوصا، وهو معروف بتأييده لإسرائيل، مثالا يمكن أن نقيس عليه نبض النخبة الغربية التي لم تكن قط في جانبنا. إنه يرى أن ما يسميه «منطق اللاعقل» قد بدأ يحل محل البراغماتية والصواب، حينما فشل شمعون بيريس أمام نتانياهو. كان ذلك أول انتكاس للأمل الذي أيقظته المصافحة التاريخية في البيت الأبيض في سنة 1993، إذ بمجرد صعود اليمين إلى الحكم في إسرائيل، بدأت الفرملة المنهجية لما تم الاتفاق عليه، وتحرك كل المعارضين للسلام، من الجانبين، من الذين راهنوا على فشل اوصلو.

ولم يتمكن باراك من إعادة المسلسل إلى مجراه إلا في وقت متأخر، بعد تردد. ثم جاء شارون، فأقبر تلك الاتفاقيات. ويتساءل الكاتب بعد استعراض ما حدث في كامب ديفيد الثانية، هل يمكن لإسرائيل أن تعيش بكيفية أبدية في جو الحرب هذا الذي يدينه العالم بأسره؟ إن شارون ـ يسجل ليوصا ـ يتصور أن ذلك ممكن. والأخطر من ذلك، أن أغلبية مواطنيه قد أغراهم هذا المنطق، وهم يؤيديون سياسته.

ويضيف: إن الإرهابيين الفلسطينيين، يفجرون نوادي الليل والبيتزيريات في تل أبيب والقدس، وهم يرون أن العدالة تقتضي، بالنسبة للشعب الفلسطيني الذي حرم من أرضه، وتحول تحت الاحتلال إلى مشردين، ان تتم تصفية إسرائيل. حقا ان إسرائيل هي الأقوى من الناحية العسكرية، ولكن التكنولوجيا العليا للمدرعات والطائرات والمدافع الإسرائيلية، لا يمكنها أن تقي الأسر الإسرائيلية من المارة في الشوارع، من النساء والأطفال، من السيارات المفخخة. ولا أمل في أن يتمكن المعتدلون من رفع صوتهم. وليس هناك أمل في الأمد القريب، إلا إذا جرت انتخابات وأزاحت شارون من الحكم، لأن فارغاس ليوصا يرى أن إسرائيل دولة ديموقراطية، بل هي الديموقراطيا الوحيدة في الشرق الأوسط.

هذا التقويم للأشياء، يمكن أن نعتبره نموذجا لما يكتب هذه الأيام في الغرب، بعد أن كان التأييد شاملاً وثابتاً لإسرائيل. ويمكن في أفق الحملة الإعلامية العربية التي يحضرها الأمين العام الجديد للجامعة العربية، أن يؤخذ بهذا النموذج لتحضير رد الفعل الإعلامي العربي على الحملة التي قامت بها إسرائيل بكثافة، لتكييف الأجواء لتقبل طروحتها. وقد تمكنت إسرائيل تماما ـ كما يوضح ادوارد سعيد في مقال محكم لم يخل من هجوم جد قوي على اوصلو وعلى عرفات ـ من الفوز في الساحة الأميركية التي ربحتها بوضوح، وهي تهيئ الآن لتجديد نفسها لتلك الحملة، راصدة عدة ملايين من الدولارات، وأسماء من الوزن الثقيل مثل الكاتب أموس عوز، والموسيقار زوبين مهيتا وزميلهما اسحق بيرلمان.

وأظن أن الحملة العربية المضادة يجب أن تعالج أمرين يظهر أنهما يخاطبان المنشغلين بمسألة السلام في الشرق الأوسط، باعتبار أن حل القضية الفلسطينية لا يمكن أن يكون إلا بصيغة الأرض مقابل السلام.

المسألة الأولى هي كون باراك قد قدم في كامب ديفيد عرضاً سخياً هو أقصى ما تقدم به سياسي إسرائيلي حتى الآن، فمما كتبه الكاتبون في الغرب، هو أن إسرائيل أقرت في يوليو 2000 بوجود دولة فلسطينية، وأنها قبلت أن تفوت للفلسطينيين %95 (خمسة وتسعين) من أراضي الضفة الغربية وغزة، وسلمت بأن تكون لهم مسؤوليات مهمة في إدارة القدس الشرقية.

وهم يشرحون هذا بأنه أكبر تنازل كان يمكن للحمائم الإسرائيليين أن يقدموه، مجازفين بمواجهة معارضة شديدة لمثل هذا التصور في داخل إسرائيل، ولكنهم تحملوا مسؤولياتهم بهذا الصدد، في وقت كانت فيه إسرائيل مقبلة على انتخابات كان يمكن أن تسفر عن تأييد حاسم لهذه الصيغة.

هذا العنصر أورده أكثر من كاتب تحسر على ضياع فرصة السلام، وهو يحتل مكانة بارزة في التحامل على الجانب الفلسطيني المتهم بأنه استسلم للمتطرفين، فأخرج ورقة المطالبة بعودة اللاجئين وعددهم يربو على أربعة ملايين، فسقطت التسوية.

المسألة الثانية التي تستحق العناية، مرتبطة بما سبق، وهي عجز سلطة الحكم الذاتي عن التحكم في الساحة الفلسطينية، لأمرين اثنين، الأول هو هيمنة مزايدات المتطرفين، والثاني ضعف السلطة الفلسطينية بسبب الفساد المستشري فيها، وهذا موضوع فصل فيه القول ادوارد سعيد في المقال الذي أشرت إليه آنفا.

إن هذا العنصر بشقيه، يستحق أن تتناوله الحملة العربية المضادة، لأنه يبرز لدى القراء في الغرب ـ وأظن أن الحملة يجب أن تستهدف الغرب في الأساس ـ كإحدى العقبات التي تعترض مسيرة السلام، باعتبار أن عجز السلطة الفلسطينية عن اتخاذ «قرارات مؤلمة» كما يسميها شلومو بن عامي، يقدم في الرأي العام الغربي، كما لو كان جزءا من هوية القيادة الفلسطينية، على الدوام، مما يحول دون التوصل إلى السلام.

وفي جل المقالات التي نشرت في هذه الأيام في الغرب، تركيز على أن ضعف السلطة الفلسطينية، هو الذي أدى إلى هيمنة المتطرفين في الجانب الفلسطيني، مما قوى المتطرفين في الجانب الإسرائيلي، وألب الرأي العام في إسرائيل لصالح شارون وموقفه المتهور المضاد للسلام.

إن هذه المقولات تتردد في سياق، لا يخلو من التحامل على الفلسطينيين، ولكنه يبتعد مسافة ما عن التأييد التقليدي لإسرائيل، وهو ظرف ملائم للتنديد بالاستثناء الذي تمثله إسرائيل في المجتمع الدولي.