هنيئا لك كل فلسطين أيها الجنرال.. ولكن..

TT

كل هذه الدماء التي تسيل في فلسطين، هي دماء اطفال كان من الممكن ان يكون المستقبل فسيحاً امامهم، وشباب كانوا يمنون النفس بوهج الحياة، وكان من الممكن ان يضيفوا شيئاً لأنفسهم واهليهم، ولكن قاتل الله قصر النظر، والعصبية والاوهام، واطماع بني الانسان واساطيره، قد يريد البعض منا ان يستمر الوضع في فلسطين على ما هو عليه، الى ان ينتهي آخر يهودي في فلسطين، ومهما كانت التضحيات، طالما ان هذا البعض بعيد عن هذه التضحيات، ولا يحتاج الأمر منهم الا لبعض الحماسة والكلمات المشبوبة والمصطلحات المثيرة، ولكن ذلك يجب ان لا ينسينا ان هناك اطفالا كان من المفروض ان يكونوا في مدارسهم يتعلمون ويضحكون، وشباباً بالكاد اخذوا يتنفسون اريج الحياة، وكهولا آن لهم ان يرتاحوا بعد عناء المشوار. العنف والدماء مرفوضة وممقوتة لذاتها وعلى أية حال، ولكن هي الظروف وهو تعصب البعض وأوهامه التي يجعلها قدراً لا بد منه.

فنعم للقتال من اجل الحرية، ونعم للقتال من اجل العدالة، ونعم للقتال من اجل كرامة الانسان الذي كرمه رب الخلق اجمعين، ولكن ذلك لا يعني استمراء القتال واستساغة الدم والدماء على حساب ضحكات الأطفال ومستقبل الشباب، وبترمل النساء وثكل الامهات وتفطر قلوب الشيب والشيبان، من هو المسؤول عن كل ذلك؟ ليكن من يكون، ولتشر اليه اصابع الاتهام، وتلاحقه دعاوى الشجب والعدوان، ولكن ذلك يجب ان لا ينسينا ان هنالك دماء تسفك، ونساء ينحن، وقلوباً تنفطر في اليوم الواحد ألف مرة. أن نحقق الاهداف السامية غاية نبيلة مطلوبة، ولكن كفكفة دموع أم ثكلى، أو هي مرشحة لأن تكون كذلك، غاية نبيلة بحد ذاتها، ويجب ان لا تكون مجرد رقم في خانة الثمن المدفوع لتلك الاهداف السامية الكبرى.

نهر الدماء في فلسطين يجب ان يتوقف. فحماس المتابعين، وتصفيق المتحمسين من المتفرجين لن يمسح الأسى، ولن يقتلع الحزن من قلوب الأمهات وأفئدة المحترقين بنار الحرب. كل جهد من أجل ذلك هو جهد من اجل فلسطين وأهل فلسطين ذاتها، فما فائدة فلسطين ان لم يبق فيها فلسطينيون، فالإنسان يجب ان يبقى هو الأول دائماً. شارون مجرم حرب وسفاك دماء، وهذه حقيقة لا رأي، وفي اعتقادي أنه سوف يلقى المصير الذي يستحق في النهاية: فمن عاش بالسيف بالسيف يقتل، كما يقولون، وبشر القاتل بالقتل ولو بعد حين، كما نقول، ومقاومته واجبة، ولكن ذلك لا يعني الاستهانة بدماء الأطفال والشباب. من اجل ذلك، ومحاولة للخروج من دائرة الدم والدماء في فلسطين، لا بد ان يُفعل شيء، وشيء خارج ما هو مطروح حالياً، من دون انتظار ان يأتي هذا أو ذاك من بلاد الله الواسعة ليحقن الدماء بأبخس الأثمان. ولكن شارون يريد كل فلسطين، مسلحاً بأوهامه واساطيره قبل سلاحه. والفلسطينيون لا يرضون بذلك بطبيعة الحال. وعرفات يريد ما اتفق عليه في «الكامبات» وعواصم المباحثات السرية، ولكن شارون لا يريد ان يلتزم بذلك، فما العمل والحالة هذه؟

لو كنت فلسطينياً، أو بالأصح مفاوضاً فلسطينياً، لحاولت احراج شارون من حيث لا يحتسب، وقلت له: حسناً.. لنطرح كل الأوراق ايها الجنرال الثمل بدماء الأطفال ودموع النساء، فماذا تريد؟.. فلسطين كلها من النهر الى البحر؟ أن تكون القدس مدينة موحدة وعاصمة للدولة؟ فليكن لك ذلك، ولتكن كل فلسطين هي دولة اسرائيل، ولتصبح الضفة الغربية هي يهودا والسامرة، ولتكن القدس هي «اورشليم»، كما تؤكد اساطيرك المؤسسة، ولكن لتنتهي دائرة العنف والدم، ويذهب الأطفال الى مدارسهم، والشباب الى البحث عن مستقبلهم. بل ولك ان تصبح دولة اسرائيل الجديدة عضواً في الجامعة العربية، ومنظمة المؤتمر الاسلامي، وكافة المنظمات العربية والاسلامية. اهناك عرض افضل من هذا؟ لا اعتقد ذلك، ولكن بشرط واحد لا غير ايها الجنرال، وهو ان يمنح جميع الفلسطينيين، من كان منهم في الضفة والقطاع، أو من كان منهم في أرض الشتات، الجنسية الاسرائيلية الكاملة، وكافة الحقوق المترتبة على هذه الجنسية، فليس من المعقول ان تأخذ الأرض كاملة من دون أهلها، فحتى جنوب افريقيا ايام الاستيطان ابقت الأهل على الأرض، ولم تشتتهم في انحاء افريقيا الواسعة.

في تقديري، إن مثل هذا العرض «الكريم» سوف يضع اسرائيل والاسرائيليين، خاصة شارون ويمين اسرائيل الغارق في وهم الاساطير، في وضع حرج، امام انفسهم وامام العالم، مهما كان الجواب أو رد الفعل. وفي النهاية، فإن مثل هذا الطرح سوف يفضح الطبيعة العنصرية للدولة الاسرائيلية بصفة عامة، ومشاريع شارون ويمين اسرائيل الأكثر عنصرية. فإن قبل شارون بمثل هذا المشروع، وهو احتمال بعيد، أو حتى شبه مستحيل، فإن الدولة الاسرائيلية الجديدة سوف تفقد طابعها اليهودي مع التغير الكبير في التركيبة الديموغرافية للدولة، وسوف تكون في النهاية دولة فلسطينية وان كان اسمها اسرائيل. بل وحتى الاسم سوف يكون قابلاً للتغيير في هذه الحالة وعلى المدى الطويل. وان قبل بالمشروع مع استمرار اضطهاد العنصر الفلسطيني الغالب في الدولة، وهو المتوقع في حالة القبول المفترضة، فإن اسرائيل سوف تتحول الى جنوب افريقيا جديدة على النمط القديم، في وقت لم يعد الزمان يسمح فيه بجنوب افريقيا جديدة على النمط القديم، خاصة ان اسرائيل ترى في نفسها الديموقراطية الوحيدة في منطقة تتسم بالشمولية والديكتاتورية وهضم حقوق الانسان، والنهاية في الحالين واحدة، بمعنى آخر، إما ان تلتزم اسرائيل بديموقراطيتها المفترضة، وتفقد بذلك يهوديتها وصهيونيتها، وهما اساسها الروحي، واما ان لا تلتزم بذلك، وتفصح عن طبيعتها العنصرية بكل وضوح، وتعود الى دائرة الدم من جديد، وعلى نطاق اوسع وأشد وأعمق هذه المرة.

ولكن الغالب أن لا يقبل شارون بمثل هذا المشروع، وهو الذي لو استطاع، لتخلص من المليون فلسطيني ـ اسرائيلي، الذين يعيشون في داخل الدولة منذ عام 1948. فشارون يريد ارضاً بلا سكان، حيث انه يرى ان فلسطين التاريخية (فلسطين + الاردن)، وقد قسمت فعلاً، وما على الفلسطينيين إلا الذهاب الى قسمهم (الاردن)، وما تبقى هو أرض اسرائيل المستحقة. فلسفة شارون الأساسية تقوم على أن اليهود قدموا من التنازل ما هو أكثر من اللازم، عندما تخلوا عن الجزء الأكبر من «أرض اسرائيل» (الاردن)، وما على الفلسطينيين الباقين على الجزء اليهودي الا الرحيل أو القبول بما يطرحه من مشاريع من دون قيد أو شرط. أوهام عجز عن تحقيقها، فما بقي له الا ان يصارع طواحين هواء سوف تشتت اوهامه مراوحها؟

وان لم يقبل شارون بمثل هذا المشروع، وهو الاقرب الى الواقع، فلا بد اذاً ان يقدم البديل، طالما انه يرفض هذا العرض المغري الذي يلغي شيئاً اسمه فلسطين، كما انه غير قادر على اقامة اسرائيل الكبرى او راغب فيها، طالما كان الفلسطينيون جزءاً من هذه «الاسرائيل»، ولا مناص من ذلك. والبديل لا بد ان يكون شيئا مقبولاً من الفلسطينيين، وفي ادنى الحدود الدنيا، وهو دولة فلسطينية مستقلة في الضفة والقطاع على أقل تقدير، ووفق القرارات الدولية واتفاقات مدريد واوسلو التي تنصل منها حزب الليكود وحكومة شارون. قد لا يرضى شارون بذلك، والغالب انه لن يرضى في المدى القصير، وان كان مجبراً في النهاية على القبول اذا استمر في سدة الحكم، وهو ما اشك فيه، وعندها لن يبقى الا البديل الحالي، ألا وهو استمرار دائرة الدم والعنف، والخاسر فيها في النهاية هو المجتمع والدولة في اسرائيل، طالما انه لم يبق للفلسطينيين شيء كي يخسروه.

قد يقول قائل هنا: ولماذا لا يستمر حمام الدم في فلسطين اذاً، طالما ان النتيجة في النهاية لغير صالح اسرائيل؟ أكل هذا خوفا على اسرائيل وامنها؟ ليست هذه هي القضية. فنعم يجب تحرير الأرض، وذلك لا يكون بغير تضحيات، ولكن من حق الاطفال ان يبتسموا، والشباب ان يعيشوا ايضاً. هي معادلة يجب ان تكون في غاية الاتزان: فما نيل المطالب بالتمني، ولكن تؤخذ الدنيا غلابا، صحيح من ناحية، ولكن الغلبة لا تعني عدم الاكتراث بالدماء وارواح البشر من ناحية ثانية، واسألوا الأم الثكلى او الأرملة الشابة عن ذلك ان كنتم من غير المكترثين. لقد زج البعض من حكام العرب وغير العرب بمئات الآلاف من البشر في معارك وهمية وحقيقية من اجل كلمة يحدد الزعيم وحده معناها ومبناها، فكل شيء يهون من اجل تلك الكلمة، ولا صوت يعلو على صوت المعركة، فما الذي جرى؟ ضاع الانسان ولم تكسب المعارك. فنعم للتضحية، ولكن دون اهدار قيمة الانسان، واعتباره مجرد رقم ضمن ارقام، ومن اجل ذلك كان فحوى هذه الكلمات.

المهم، وعود على بدء، نقول: ثلاثة خيارات في هذه الحالة، على الجنرال الواهم ان يختار احدها: إما اسرائيل الكبرى كما يريد، ولكن بكل فلسطيني على الأرض مواطناً فيها، أو الرجوع الى ما اتفق عليه وتنصل منه شارون، أو الاستمرار في الوضع الحالي الذي هو في غير صالح الدولة الاسرائيلية في النهاية. لو كنت فلسطينياً، أو مفاوضاً فلسطينياً بالأصح، لقلت لشارون ذلك، وطرحت عليه ذلك، ولنر ردة فعله، وردة فعل الولايات المتحدة لكل هذا التنازل الذي لا اعتقد ان بعده تنازلاً. وعلى أية حال، فأنا في النهاية مجرد مراقب يحاول الموازنة بين امانيه الذاتية، وما هو محيط من ظروف موضوعية، والغاية في النهاية رسم بسمة على وجوه الأطفال. مجرد مراقب يقول كلمته ويمشي، فإن اصابت الهدف، فهذا هو المطلوب. وان زاغت، فهي لا تعدو ان تكون وجهة نظر.. هذا، وكان الله المستعان في كل حال.