خطورة مؤتمر ديربان

TT

صحيح ان مؤتمر ديربان ليس إلا حدثا ثقافيا يناقش المؤتمرون فيه موضوع العنصرية ولا يملكون من اسلحة تغيير سوى الشجب والتنديد، ولكنه ايضا حدث سياسي في غاية الأهمية. فلم يماثله مؤتمر من قبل بهذا الحضور والاهتمام العالمي، وموضوعاته تتدخل مباشرة في تفسير القوانين المحلية والتطبيقات الداخلية لها، كما رأينا في استهدافه للنظام الصهيوني كفكر ومعاملة.

ولهذا جمع الاسرائيليون مؤيديهم وركزوا في دفاعهم عن العقيدة والممارسة الصهيونية من خلال استراتيجية من ركيزتين، دفاعية: بالاصرار على تفسير رومانسي للحركة الصهيونية والنظام الاسرائيلي لها بأنها الديمقراطية الوحيدة في واحة من الديكتاتوريات، وهجومية: من خلال نقد الاوضاع المجاورة، مهاجمة السعودية والسودان تحديدا ووصف الأولى بالتمييز ضد غير المسلمين على اراضيها، والثانية بالتمييز ضد الفئة المسيحية والوثنية من مواطنيها.

لكن اسرائيل تعرف ان المؤتمرين يدركون الفارق بين اخطاء في الممارسات، ونظام يقوم اساسا على مبدأ عنصري قائم في اساسه على منح المكان والسلطة لفئة واحدة من «سكانها» ويقوم ايضا على مبدأ اقصاء الفئة الثانية التي يعلم الجميع انها صاحبة الارض والحق وتحارب من اجله وفق نظام الامم المتحدة الذي يبيح للشعوب المستعمرة حق تحريرها بالقوة.

اهمية مؤتمر ديربان انه يطعن اسرائيل في اعظم اسباب وجودها، وهو السبب الثقافي الذي تدعي من خلاله انها هي دولة مضطهدة (بفتح الهاء) لأمة اضطهدت تاريخيا. هذا التبرير اقنع شعوبا كثيرة في سنوات الحرب الخمسين تتفهم لجوء اسرائيل الى نهب الارض وتهجير المواطنين العرب وجلب اليهود من روسيا واوكرانيا ومانهاتن وبغداد وصنعاء وتونس واثيوبيا وغيرها. هذا المبدأ السياسي هو اساس الاستثناء الذي تقوم عليه اسرائيل. ومحاولتها التعلق بمخالفات غيرها، إن وجدت، وادعاء أنها اقل قسوة، لم تكن مقنعة، وصور الضرب والقتل والتدمير ومعرفة معظم المشاركين بأن اسرائيل تحتل اراضي هذه الشعوب قهرا. ولا شك ان الخطر الاكبر على اسرائيل لم يكن في يوم من الايام عسكريا لأنها الاقوى ولم يكن من نقص في المال لأن مصادرها اغنى، بل الخوف عليها يرد من الجانب الثقافي الذي تمكنت من ترويجه عالميا وتكسبت منه. اسرائيل تخشى من ان تواجه ما اصاب نظام جنوب الابارتيد العنصري في جنوب افريقيا الذي سقط بعد ان ثبت للعالم عنصريته وعجز حلفاؤه في الدفاع عنه حيث كان يقال انه يحارب الشيوعيين ويمثل نموذجا متمدنا في مجتمع متخلف. هذا الذي اودى بالعنصريين البيض وانقلبت عليهم الساحات العالمية بسرعة لم يتوقعوا هم انفسهم حدوثها. سقط النظام العنصري وهو اكثر قوة عسكرية وامنية واقتصادية، لم يسقط بسهام الحركات السوداء المعارضة له بل بسبب سوء سمعته وتخلي الجميع عنه ومقاطعته حتى النهاية.