الغياب الإمبراطوري الأخير

TT

بدأت اوروبا الرسمية الحملة الكبرى لاعداد الناس لاستخدام العملة الموحدة، او «اليورو». ومن يتأمل هذه الخطوة البسيطة في الظاهر، يخيل اليه ان عالماً جديداً يولد وليس مجرد عملة جديدة سوف تحل مكان 12 عملة قديمة اعتادها اهلها والعالم مئات السنين، من الفرنك الى المارك الى الشلن النمساوي. ثمة دول كثيرة في هذه القارة كانت، في مراحل ما، امبراطوريات. وقد امتدت الامبراطورية البرتغالية على ثلاثة ارباع الكرة، من البرازيل الى الشرق الاقصى، فيما لم يكن عدد سكان البرتغال نفسها اكثر من مليون نسمة. وهناك الامبراطورية النمساوية والفرنسية والهولندية، بالاضافة طبعاً الى الامبراطورية البريطانية التي اصبحت جزءاً من اوروبا من دون ان تصبح جزءاً من عملتها الموحدة.

مجموعة تواريخ طبعت صورة العالم وجغرافيته لعدة قرون، تلغي نفسها الآن طوعاً، بعدما اخفقت في ذلك حربان عالميتان وعقود من الحروب المتفاوتة الاحجام والمدد. وسوف تحمل العملة الواحدة ذات يوم صور الرجال والنساء الذين كانوا يشنون الحروب او يغذونها، او سوف تحمل صور الادباء والشعراء الذين كانوا يمثلون المجد الوطني في دولة والتحريض في دولة اخرى. وقد تصبح صورة نابوليون (او نلسون) على قطعة واحدة يتبادلها الفرنسيون والانكليز الذين حفروا البحر لكي يتبادلوا الناس والسياح والبضائع بدل الحقد والثأر والبوارج الحربية. امبراطوريات كانت تتقاتل في كل مكان معروف من الارض، سوف تتعامل الآن بعملة واحدة لا تحمل اي اثر للتاريخ بل اسم المستقبل: «الاورو». وسوف تبحث كل هذه الدول عن مصير اقتصادي واحد بعدما كانت سفنها تطارد بعضها البعض من بحر الصين الى بحر العرب ومن طريق الحرير الى طريق البهار ومن قطار الشرق السريع الى قطار الهند البطيء. لقد بنى الاوروبيون اكثر من عالم لهم وهم يتطاردون من قارة الى قارة، يسبقهم الرحالة والمستكشفون: كندا الانكليزية والفرنسية. واميركا الانكليزية. واميركا الاسبانية. واميركا البرتغالية. واستراليا، ونيوزيلندا. و«دول عبر البحار». واقامت بريطانيا سوقاً كبرى سمته «الثروة المشتركة» او «الكومنولث» على اسم نظامها الاول. كما اقامت فرنسا «منطقة الفرنك». والآن اختلط كل شيء، واصبحت اوروبا سوقاً واحدة تبحث عن سوق مشتركة حول العالم. وهي تبني طائرة تجارية واحدة في اربع دول. وتبني قمراً صناعياً واحداً في عشرة مصانع. وارتفع سعر الاراضي في جنوب فرنسا ليس لان الرسامين الهولنديين قادمون الى مرسم فان غوغ، بل لان التجار الهولنديين هاربون من الصقيع لاقامة الفنادق والمزارع في الشمس. والقرى التي عرفها الاوروبيون في الماضي، ذات شخصية واحدة ولون واحد وساحة واحدة للاجتماع والثرثرة وتمضية الوقت، سوف تنقرض عما قريب لتصبح بابل اللغات واللهجات والعادات والتقاليد. والواقع ان اعمق ما تعلنه ولادة اليورو هي نهاية العصر الامبراطوري ربما الى الابد. عندما ذهب الاوروبيون الى الصين في القرن السادس عشر، كانت الصين تعتبر انها وسط العالم ومركزه. هذا المفهوم الامبراطوري الذي نقله الاوروبيون لم يعد «لائقاً». ان اوروبا (واميركا في بورتوريكو) مجرد دول لها «مقاطعات عبر البحار».