الأغذية المعدلة وراثيا: المطلوب نقاش بنّاء

TT

اثارت المنتجات الغذائية المعدلة وراثيا الكثير من الجدل مرارا كلما طرحت هذه المسألة للنقاش، علما بأن هذا النقاش اقتصر حتى الآن على أوروبا واميركا الشمالية وظل بمثابة نزاع بين المصالح التجارية ومصالح المستهلكين. اتخذ كل طرف في هذا النزاع مواقف محددة ومنطلقات يدافع منها عن وجهات نظره ومواقفه تجاه هذه القضية.

ما يمكن قوله هنا هو ان التطورات التي طرأت على مجال الزراعة وداخل مختبرات التجارب والبحوث تجاوزت كثيرا الحجج التي يستند اليها مؤيدو استخدام الهندسة الوراثية في مجال المنتجات الزراعية ومعارضوها على السواء. فالمنتجات الزراعية المعدلة وراثيا موجودة، كما ان البحوث حول التعديل الوراثي للاغذية تجرى في آلاف الجامعات والشركات الخاصة ليس فقط في العالم الصناعي وإنما في دول اخرى مثل الصين وجنوب افريقيا الى جانب بعض الدول النامية الاخرى.

لا شك ان وجهات النظر والمواقف تجاه الاغذية المعدلة وراثيا تختلف تماما الاختلاف في الغرب عنها في الصين او في افريقيا، فالمزارعون الذي سمعوا بأن بذور الاغذية المعدلة وراثيا يمكن ان تساعد في زيادة الانتاج وتقاوم الجفاف والآفات الزراعية سرعان ما يتساءلون عن كيفية الحصول عليها.

واذا حاولنا اخراج النقاش من حدود «التحصينات» التي اتخذها كل من طرفي النزاع بين مؤيد ومعارض، يمكن ان نتوصل الى سؤال غاية في الاهمية: كيف نتأكد من ان هذا التكنولوجيا ستفيد الدول النامية والمزارعين والمستهلكين الفقراء؟

الأغذية المعدلة وراثيا يمكن ان تحدث اكبر تغيير في مجال الانتاج منذ الثورة الزراعية التي حدثت في ستينات القرن الماضي، كما من الممكن ان تساعد هذه الاغذية على تقليل معدلات النقص في الحديد وفيتامين A فهي غنية بمثل هذه المواد. نقص الحديد في الجسم يؤثر على عدد يتراوح بين 4 و5 ملايين شخص في العالم، اذ يعتبر ذلك مشكلة صحية تصل الى مستوى الوباء من ناحية الانتشار وعدد الذين يعانون من هذه الحالة كمشكلة صحية. علاوة على ذلك يؤثر النقص في فيتامين A على عدد يتراوح بين 100 و400 ألف شخص في العالم ويتسبب في فقدان البصر لدى عدد يتراوح بين 250 ألفا و500 ألف سنويا يموت نصفهم خلال 12 شهرا من فقدانهم البصر.

اضافة المواد المغذية للمنتجات الغذائية ليست فكرة جديدة، ذلك ان غالبية دول العالم درجت على اضافة اليود الى الملح لتفادي الاصابة بتضخم الغدة الدرقية والتشوهات الدماغية التي يسببها نقص اليود.

الجديد في الامر، اذاً، هو ان العلماء اتجهوا نحو التعديل الوراثي في الجينات بدلا من اضافة المواد الى هذه الاغذية. ويعتقد البعض ان التطور في هذا المجال ربما يؤدي الى انتاج عقاقير في صورة منتجات غذائية مثل الفواكه التي تحتوي على مختلف اللقاحات ضد الامراض، ففي الدول التي تعاني من معدلات المناعة المنخفضة يمكن ان تلعب مثل هذه المنتجات دورا رئيسيا كعقاقير منقذة للحياة.

ربما نواجه كذلك بعض الآثار السلبية الخطيرة، فإذا اصبحت المنتجات المعدلة وراثيا اكثر تكلفة، من ناحية السعر مقارنة بالمنتجات الاخرى المتوفرة، فلن تكون بالتأكيد في متناول يد الفقراء، كما انها اذا لم تخضع للتجريب الدقيق فربما يكون لها نتائج خطيرة وآثار جانبية غير متوقعة. بمعنى آخر، اذا لم تضع الجهات المسؤولة مصلحة المستهلك في المقام الاول، فإننا ربما نجد منتجات مطروحة في الاسواق الغرض الاساسي منها زيادة ارباح المنتجين والشركات الكبرى دون الاخذ في الاعتبار فائدة المحتاجين الى هذه المنتجات.

ليس ثمة شك في ان السلامة جانب اساسي في قضية الاغذية المعدلة وراثيا، لكننا ينبغي ان نجيب على الاسئلة المتعلقة بمدى فائدة هذه الاغذية والجهات المستفيدة منها فعلا. لم تجتذب اهتمام المستهلكين الاوروبيين الحجج التي تقول انهم في حاجة الى اكل الذرة الشامية والفاصوليا المعدلة وراثيا وان تكلفة انتاج هذه الاغذية اقل سعرا وهي بالتالي اكثر فائدة بالنسبة للمزارعين من ناحية الارباح. ربما تكون هناك بعض الجوانب التي اثارت اهتمامهم مثل مقاومة البذور المعدلة وراثيا للآفات الزراعية وان هذه البذور تحتاج الى كميات اقل من المبيدات الحشرية مما يعني انها ملائمة للبيئة. غير ان هذه الحجج قوبلت بحجج اخرى يقول اصحابها ان مؤيدي انتاج الاغذية المعدلة وراثيا لا يعرفون سوى القليل فقط حول النتائج الايكولوجية المترتبة على الهندسة الوراثية للجينات.

يقول المنتجون والجهات المسؤولة في مجال انتاج الاغذية المعدلة وراثيا ان العلماء الذين يعملون في ابحاث البيوتكنولوجية يدركون ان المشاكل المتعلقة بهذه القضية نابعة في الاساس من عدم مقدرة المستهلك على فهم هذا النوع من الأغذية ومقارنة مخاطر هذه الاغذية بمخاطر الاغذية التقليدية.

تتركز المخاوف الآن في احتمال ان تشكل المداولات المستقبلية حول هذه القضية خطأ ثانيا. الخطأ الاول تركز في عدم إشراك المستهلكين والاطراف الاخرى المهتمة بهذه القضية في عملية تحليل المخاطر الناجمة عنها. عملية التقييم العلمي التي حدثت والقرارات التي اعقبتها اعتبرت من جانب الكثير من المنظمين مسألة معقدة للغاية بالنسبة للمستهلك العادي. ويبقى القول ان أي تقييم مستقبلي للاغذية المعدلة وراثيا يجب ان يكون واسعا وان يركز اهتمامه على السلامة بالاضافة الى الجوانب الغذائية والفعالية والاعتبارات الاجتماعية والاقتصادية والاخلاقية على ان يجري تطوير هذه الاعتبارات الشركاء الآخرين في منظمة الصحية العالمية ومنظمات اخرى مثل منظمة الزراعة والاغذية التابعة للامم المتحدة وبرنامج البيئة ومنظمة التنمية والتعاون الاقتصادي والبنك الدولي بالإضافة الى المنظمات غير الحكومية، علما بأن قادة مجموعة الدول الصناعية الثماني تعهدوا بدفع هذه القضايا الى الامام، وهذا في حد ذاته امر ايجابي.

* رئيس وزراء النرويج السابق والمدير الحالي لمنظمة الصحة العالمية.

بالاتفاق مع «لوس انجليس تايمز» ـ خاص بـ«الشرق الأوسط»