سنوات في مصر 24: معلمي الفيلسوف شارل مالك

TT

دوما، ومنذ ظهور جمال عبد الناصر حتى نكسة عام 1967 كان صوت الفرقعة يقع في مصر، وكان صداها يقع في الاردن او في دمشق، او في بيروت في او في بغداد. هكذا كان قدرنا، قبل وحدة مصر والشام، وبعد وحدة مصر والشام! ولست مؤمنا ـ لا امس ولا اليوم ـ بالتفرقة او الانفصال بين دول الامة الواحدة! وكذلك تبقى عوامل «التفاهم» اقوى وابقى عندي من عوامل سوء التفاهم بين الدول العربية! ولست متفقا مع ذلك الكاتب اللبناني ـ الكتائبي الكبير ـ الذي نشر كتابا كاملا لكي يتبرأ فيه من العرب والعروبة، ويقول في أحد فصول كتابه انه «يصعب عليه حتى اليوم ان يقول انه عربي، وان قالها فلن يكون صادقا... ولماذا... لان في لفظه العروبة ما يخالف مشاعره بالقدر الذي لا العقل ينفع في ازالته ولا المنطق».

ومن حق لبنان الصغير المدلل على صدور اشقائه العرب، ان يسمح لكاتب لبناني من ابنائه ان يكتب مثل هذا القيء، وان يزعم بان بشارة الخوري، وزميله رياض الصلح، ومعهما سليم تقلا، لم يرضوا عن بعض النصوص التي وردت في بروتوكول الاسكندرية وبالاخص الفقرة التي تمنع اية دولة عربية من الدول المتعاقدة ان تتبع سياسة خارجية تضر بسياسة الجامعة العربية، او بمصالحها!» ومثل هذا الكلام العجيب، قد لا يحتاج الى تفسير، بقدر ما يحتاج الى تخدير او تدبير.. اذ ان المقصود بالسياسة التي تضر بمصالح العرب او بمصالح «الجامعة» هي سياسة الصلح مع اسرائيل، او سياسة الارتماء في احضان الاستعمار، او سياسة العمالة لامريكا...! ترى، هل حقا ان الشيخ بشارة، ورياض، وسليم تقلا كانوا يعارضون مثل هذه المحاذير لو انها وردت في بروتوكول الجامعة العربية!! ان الذي اعرفه وما زلت اشعر بالفخر بسببه انني رأيت زعيما سوريا «سعد الله الجابري» يذرف الدموع في ذلك اليوم التاريخي داخل مؤتمرات بروتوكول الاسكندرية، وانني عندما سألته لماذا يبكي ـ وكنت برفقة الزعيم موسى العملي، ممثل فلسطين الى تلك الاجتماعات، اجابني الزعيم الجابري.. انه يبكي لان بروتوكول الاسكندرية لم يجمع العرب في وحدة شاملة كما كان يرجو ويتمنى ويعمل.

وهذا هو الفرق بين زعيم عربي، من جهة، وعملاء فرنسا وبريطانيا من جهة اخرى!! وفي مستنقع تلك العمالة المعروفة، والمجبولة بالتعصب والكراهية للغير، والضعف امام الاجنبي، والنفور من كل ما هو مسلم وكل ما ومن هو عربي او شرقي، والتبرؤ من الاصول «الشروش» وحقائق التاريخ، والاستخفاف باللغة والحضارة لحساب الافرنج»، والتمسك بنظرة الاستعلاء والتكبر تجاه المواطن المسلم داخل لبنان او حوله. اقول... في هذا الجو عاش استاذي ومعلمي الدكتور شارل مالك، استاذ الفلسفة في الجامعة الامريكية في بيروت، وكان ـ كما عرفته يومذاك ـ مشهورا بتفكيره الجدي، واخلاقه المستقيمة، واطلاعه الواسع واخلاصه لعمل الفلسفة ورجالاتها، مع نزعته الدينية والمحافظة والمتحكمة بمعظم تصرفاته! وسأبقى ما حييت اشعر بالفخر والامتنان تجاه هذا الاستاذ العبقري اللبناني الذي اعطى تلامذته ـ وانا منهم ـ اسمى واحلى القيم الفلسفية والادبية والاخلاقية من خلال محاضراته لنا عن سقراط، وارسطو، وديكارت، وافلاطون، ونيتشه، والامام العزالي وغيرهم. وقد تولى شارل مالك، بعد انتقاله من منصبه في الجامعة الامريكية الى السلك اللبناني الدبلوماسي منصب وزير الخارجية في حكومة ترأسها صديقي وقريبي الرجل الطيب الراحل سامي بك الصلح وكان ذلك في عام 1957 وعام 1958. وقبل ذلك بسنوات ـ وبالتحديد في 18 ابريل (نيسان) من عام 1955 انعقد مؤتمر باندونج لدول افريقيا وآسيا، وكان الوفد اللبناني يتألف من رئيس الوزراء «الطيب القلب» سامي الصلح ومن وزير الخارجية الدكتور شارل مالك، ومن مدير عام الخارجية اللبنانية السيد فؤاد عمون. وخاطب عبد الناصر الرؤساء والوفود العربية موجها كلامه للرئيس سامي الصلح ـ وكأنه يعني وزير الخارجية شارل مالك ـ «ان علينا ان نتخذ موقفا مستقلا» بين دول الشرق ودول الغرب، واذا لم نفعل ذلك فان المؤتمر سيفشل لانه سيتحول الى مشاجرات بين الشرق والغرب، وفي مثل هذه الحالة يصبح من الافضل دعوة امريكا وروسيا» ثم قال: «يجب ان ينجح هذا المؤتمر واذا دخلت المناقشات في التفاصيل فان المؤتمر سيفشل، فعلينا ان نناقش المبادئ فقط وخاصة المبادئ العامة بالنسبة للعرب مثل مشاكل الاستعمار وتقرير المصير.. الخ».

ولكن على من تقرأ مزاميرك يا داوود. فقد اصر الوفد العراقي، برئاسة فاضل الجمالي، والوفد اللبناني بسيطرة ونفوذ شارل مالك على تأييد سياسة الاحلاف العربية ومحاربة الشيوعية في كل مكان، وتحت اي ظرف، ولولا عبد الناصر لانفرط عقد المؤتمر في جلساته الاولى! واندفع شارل مالك في التمسك بالموقف السلبي تجاه المباحثات والاقتراحات والتوصيات حيث اقترح عند مناقشة مسألتي الاستعمار والتعايش السلمي ان يجري البحث تحت اطار «الاستعمار القديم والجديد» معارضا فكرة التعايش السلمي لانها حسب رأيه ليست سوى احد التعابير الشيوعية!!». وتدخل الزعيم الاشهر «الباندنت نهرو» فقال لشارل مالك على مسمع من الجميع: انك يا معالي الوزير تضيع وقتنا سدى»! وكانت لطمة قاسية على وجه الوزير اللبناني لم يستطع على اثرها ان يكمل كلامه! واراد سامي الصلح ـ الرجل الطيب ـ ان يبدد اي شعور بخيبة الامل من تصرفات شارل مالك في جلسات مؤتمر باندونج، فخصني بحديث نشرته في «اخبار اليوم» وقال فيه ان الامال التي علقها العرب على مؤتمر باندونج لم تخب، بل بالعكس، خرجنا منه وقضايا العرب معززة والرغبة في التعاون بين بلدان اسيا وافريقيا وطيدة، والنية في دعم السلام العالمي صريحة ومخلصة ووجه لبنان في كل ذلك ساطع ومشرق!!!».

لا اظن! الواقع ان دور رئيس الوزراء اللبناني، واعني الرجل الطيب القلب سامي بك الصلح، طيلة جلسات المؤتمر المذكور، لم تزد عن دور المسؤول المراقب الذي لا يملك الحق في ان «يعارض» وزير خارجيته، ولا يملك الشجاعة في ان يوافق على كلامه. لقد سمعته يقول لي بعد عودته الى بيروت من باندونج: انا تركت المؤتمر للدكتور مالك، يقارع عبد الناصر، ويرضي الامريكان ـ ويحكي «كما يشاء»! ثم يكمل سامي بك قائلا لي: بابا خلي الفخار يكسر بعضه! وسألته: وهل كان رضى الامريكان عليكم متساويا مع غضب جمال عبد الناصر على هذا الوفد اللبناني وعلى ما قاله شارل مالك من هجوم على السوفييت واشادة ممجوجة بأمريكا؟ اجابني سامي بك الصلح بكل صراحة وامانة «وان كل ما يهمنا الان هو تأمين القروض المالية للبنان من امريكا، ومقاومة نفوذ الجمهورية العربية المتحدة وجمال عبد الناصر في لبنان، والحرص على استمرار وبقاء الجامعة العربية رغم مؤامرات مصر عليها...!» وعاد يكرر على مسمعي وهو يقهقه ضاحكا: انا تركت المهمة لشارل مالك، وهو قادر على ان يحملها ويمشي بها على الشاطئ الامريكي...! بعد ذلك بفترة قصيرة دخل سامي بك الصلح المستشفى الامريكي في بيروت يشكو من الم شديد في الصدر وارسل دوايت ايزنهاور طبيبه الخاص لكي يعالجه ويضمن له الشفاء العاجل وطلب مني سامي بك، بحكم صلة الصداقة والقرابة، ان اتوجه الى مطار بيروت لكي اكون في استقبال الطبيب الامريكي عند وصوله. وقمت بالمهمة ورافقت الدكتور «بول وايت» من المطار مباشرة الى مستشفى الجامعة الامريكية، وبعد ان اطمأن الدكتور على حالة سامي بك، رافقته الى فندق «سان جورج» حيث قال لي انه سيبقى في بيروت ما دام سامي الصلح راقدا في المستشفى ولن يغادر لبنان الا بعد الاطمئنان التام عليه. واضاف بلهجة كلها حزم: هكذا هي تعليمات الرئيس ايزنهاور لي...!

*** وجاءت ازمة 1958 الطاحنة المدمرة! وانقسم لبنان بين فئة يتزعمها الرئيس كميل شمعون وتضم حزب الكتائب والحزب القومي وحزب الطاشناق الارمني، وتعارضها فئة المسلمين ومنهم الحزب التقدمي الاشتراكي، وجبهة الاتحاد الدستوري، وحزب النجادة والجبهة الشعبية، والهيئة الوطنية، والتحرر العربي، وصائب سلام، واحمد الاسعد، ونسيم مجدلاني، وعبد الله اليافي، ورشيد كرامي، وصبري حمادة... وغيرهم. وكنت في بيروت، استمع الى الاذاعة السرية التي انشأها يومذاك كمال جنبلاط لكي تتولى اذاعة اخبار الحرب الدائرة بين شمعون من جهة والمعارضة من جهة اخرى، وسمعت تعليقا سياسيا غريبا يوجه اقسى الشتائم الى كاتب هذه السطور. لماذا؟ لانه حسب قول اذاعة جنبلاط نصا وروحا يستقبل الرئيس سامي الصلح، رئيس الوزراء اللبناني يومذاك في منزله الكائن بضاحية «الصنايع» في شارع «فردان» في عمارة «حمزة» الساعة 11... ليلا، قبل منتصف الليل وينقل اليه اخبار عبد الناصر! هكذا.. بالنص الحرفي كما ورد الخبر بلسان اذاعة كمال جنبلاط في ضواحي بيروت!!! ثم تطور الهجوم ضدي، الى تهديد بالقتل.. والاغتيال. وارسل اللواء عبد الحميد غالب ـ سفير مصر في بيروت تقريرا سريا لحكومته يقول فيه بان: ناصر النشاشيبي يتولى كتابة الكلام العدائي الذي يلقيه سامي الصلح من اذاعة بيروت ويشتم فيه الرئيس جمال عبد الناصر! واطلعني الرئيس عبد الناصر فيما بعد بنفسه على التقرير كما اطلع عليه زميلي وصديقي الكبير الراحل صلاح سالم، فارسل لي برقية مستعجلة الى بيروت يطلب فيها مني ان اغادر بيروت واسافر الى مصر خوفا على حياتي! ولم اسافر الى مصر، وانما لبيت رغبة صلاح سالم، وتركت بيروت، وسافرت الى استنبول، ثم لحقت بي برقية اخرى من صلاح سالم يطلب مني فيها ان اعود الى بيروت واكتب تقريرا ـ خاصا ـ له عن حقيقة موقف الاطراف اللبنانية الرسمية المؤيدة لكميل بك شمعون! مثلا: ما هي حقيقة موقف وزير الخارجية الدكتور شارل مالك؟ ومن يقف وراء شارل مالك؟ وماذا يريد شمعون؟ وماذا تريد الكتائب؟ وهل سامي بك مستعد للاستقالة والتخلي عن شمعون؟ اسئلة كثيرة، حملتها لي برقية صديقي صلاح سالم، وطلب مني العمل للوصول الى الجواب الحقيقي على كل منها! ركبت الطائرة وعدت الى بيروت. وكانت قوات البحرية الامريكية تنزل على شواطئ بيروت فأراها امامي على مسافة قريبة من مطار بيروت الدولي. وفي اليوم التالي، كنت ارتب موعدا للمقابلة الصحافية المطلوبة مع استاذي ومعلمي الدكتور شارل مالك، الذي اصبح يومذاك وزيرا لخارجية لبنان. والدكتور شارل مالك استاذ مسيحي ارثوذكسي من مواليد منطقة الكورة الشمالية في لبنان، اي من القرية التي انجبت فيما بعد الوزير الماروني ايلي سالم وزير الخارجية اللبناني الاخر، بعد شارل مالك. وبعد تخرجه من جامعة هارفورد في الولايات المتحدة التحق شارل مالك بالجامعة الامريكية في بيروت ثم بالامم المتحدة في نيويورك وساهم في اعداد ميثاق حقوق الانسان في عام 1948 كما ساهم قبل ذلك في كتابة ميثاق الامم المتحدة لعام 1945.

لكن، بقي السؤال الكبير بلا جواب: من هو الذي جاء بشارل مالك من الامم المتحدة الى بيروت لكي يخوض العمل السياسي ويحتضن ميثاق ايزنهاور؟ ومن الذي اقنع هذا الفيلسوف اللبناني المميز ان مكانه المختار هو في السياسة الشرق اوسطية لا في المراكز الدولية، العالمية في نيويورك؟ ترى هل هو صائب سلام؟يجوز، يجوز جدا. أم هي المخابرات الامريكية؟ يجوز، يجوز جدا. ام هل هو كميل شمعون والكتائب وموارنة لبنان؟ يجوز، يجوز جدا! لقد كان المفروض ان يبدأ ميثاق ايزنهاور مسيرته في القاهرة ومنها ينطلق الى بيروت وعمان لولا ان رفضه عبد الناصر، فجاء متسللا الى بيروت على امل ان يعود ـ فيما بعد الى مصر. وميثاق ايزنهاور ـ في جوهره ـ عملية اقتصادية سياسية تحرص بوضوح على ضمان حدود اسرائيل بعد اتفاقية الهدنة وتمنع التسلل الشيوعي الاحمر الى المنطقة باسرها وتربط الشرق الاوسط بعجلة الغرب. في بيروت تولى مسؤولية تسويق المشروع ابن امريكا المدلل صديقي معالي الدكتور شارل مالك برعاية الرئيس اللبناني الاستاذ كميل شمعون. وعلى رؤوس الاشهاد، اعلن شارل مالك انه مع امريكا، ومع مشاريعها، وضد الشيوعية وضد مصر وضد جمال عبد الناصر! ومن اجل هذه الاهداف قضى العشرين سنة الاخيرة من عمره وهو يسبح عكس التيار ويمشي عكس الريح، ويطير عكس الاعاصير! كان باستطاعة شارل مالك ان يكون اكبر مؤرخ ثقافي فلسفي للفكر العربي المعاصر ولكنه فشل لانه لم يحاول، او لانه لا يريد! وكان باستطاعته ان يخدم بلده لبنان من خلال وزنه الثقافي واتصالاته الدولية مع العالم، ولكنه لمع بالتدريج، وسقط بالتدريج! واشتد به مرض السكري حتى قضى عليه في احد مستشفيات الحي الشرقي من بيروت وفي ظروف جد مأساوية اجرى له فيها الاطباء عمليات متتالية في بتر القدمين والساقين، واليدين ـ عملية بعد عملية ـ محاولين انقاذ المريض الذي انكمش جسمه في اخر ايامه الى مجرد جسم طفل هزيل لا يزيد وزنه عن ثلاثين كيلوغراما!!! وبقي الناس يقولون في بيروت ان سر شارل مالك كان محصورا في قدرته على رفع مستوى لبنان ـ كدولة وبشر ـ من بلد فقير فوضوي بلا قانون ولا هيبة في اوائل الخمسينات الى دولة حضارية غنية متفتحة للعالم في عالم 1960.

ومن خلال انضمام لبنان الى ميثاق ايزنهاور، مع انهمار الملايين من الدولارات على البلد الصغير، والامعان المقصود في سياسة مقصودة حول الانفتاح والتظاهر باللون الدولي والامريكي والمتسامح.. انطلق لبنان في مسيرته السياسية والاقتصادية من حاضره الفقير المقيت الى غده الباسم.

قال لي، ونحن نتبادل العتاب في مكتبه بوزارة الخارجية اللبنانية: ان عبد الناصر هو المسؤول الاول عن تدهور العلاقات بين امريكا ومصر عندما عقد صفقة الاسلحة مع تشيكوسلوفاكيا عام 1955.

قلت: ولكن صفقة الاسلحة التشيكوسلوفاكية التي عقدها عبد الناصر كانت مجرد «رد فعل» على الرفض الامريكي لتزويد مصر بالسلاح الحربي المطلوب! بينما الطائرات الاسرائيلية تعتدي على اجواء مصر وعلى سماء مصر وتثير الرعب في قلوب الاطفال والسياح والنساء! وبعضهم من بلدي من «غزة» في فلسطين! لقد سحبت امريكا العرض المالي السخي لبناء السد العالي في مؤتمر صحفي مفتوح كان القصد من ورائه الحاق الاهانة المباشرة والعلنية بالرئيس المصري.. فهل هذا يجوز؟ وهل هكذا تكون اصول المعاملات الدبلوماسية مع الرؤساء الكبار؟

قال، متجاهلا سؤالي: وهكذا ـ اتفقنا ـ على ان صفقة الاسلحة مع السوفيات كانت نقطة البداية التي جرت وراءها كل هذه الخطوات المحمومة والخطيرة والتي اقدم فيها عبد الناصر على تأميم القناة، مما فتح الباب امام التدخل العسكري الانجلو ـ فرنسي بالتعاون مع اسرائيل حتى وصلنا الى ما يسمى بـ «ميثاق ايزنهاور» أليس هذا صحيحا؟

قلت: وما زاد الطين بلة صدور القرار الامريكي بقطع شحنات القمح والمساعدات المالية الى عبد الناصر أليس هذا هو الواقع؟

قال: ولكن امريكا يا تلميذي الذكي اخذت جانب عبد الناصر طيلة وجود الاعتداء الثلاثي على مصر، ولولا الرئيس ايزنهاور شخصيا لما تم انسحاب القوات الثلاثية من الاراضي المصرية، ولكن مصر بدلا من ان تبدي كلمات الشكر والامتنان للرئيس ايزنهاور، اذ بها تشعل الانتفاضات، وتدبر الانقلابات ضد جيرانها من الدول العربية المجاورة، ويتعرض الاردن الى اكثر من مؤامرة انقلابية ويستمر وصول السلاح السوفياتي الى مصر والى الدول المعادية لامريكا! وانا اسألك هل هذا يجوز؟ وهل هكذا يكون ابداء الشكر لرئيس امريكي لولاه لما خرجت اسرائيل ولا فرنسا ولا بريطانيا من منطقة القناة؟

قلت: اما فيما يتعلق بالشكر المطلوب لايزنهاور فقد عملت بنصيحتك او بمشورتك قبل ان اسمعها منك، فافردت لامريكا مقال شكر طويلا جعلت عنوانه: «شكرا ايزنهاور»، ولكن عبد الناصر قال لي يومها ان ذلك المقال لا ضرورة له، ولا مبرر لظهوره، ولا معنى له ؟! وأكملت: ولكن العلاقة لم تعد محصورة بين ايزنهاور وعبد الناصر عندما حشد الامريكان مجموعة من رجال المخابرات الامريكية انفسهم للتوسط، والمناورة! فهل يجوز يا معلمي الكبير ان يُترك تحديد العلاقة بين اكبر دولة عربية ـ مصر ـ وبين اكبر دولة في العالم ـ امريكا ـ الى حفنة من الجواسيس الهواة من امثال مايلز كوبلاند، وايفلاند، وكيم روزفلت، وايجلبرجر...؟

ثم اضفت محاولا الشرح والتفسير: انا لا اتنكر لصداقتي الطويلة والقديمة مع مايلز كوبلاند ومع زوجته المتخصصة في التنقيب عن الاثار المدفونة في باطن الارض الفلسطينية والاردنية والسورية.. ولا اخفي عليك انني سبق وسمعت معظم حججك واقوالك حول هذه المواضيع من «صديقي» كوبلاند منذ الايام الاولى للخمسينات ومنذ ان هجر «كوبلاند» الشام وجاء الى القاهرة، وتعددت جلساتنا وسهراتنا في قلعة محمد علي ومشاهدة رقصة الدراويش.. في مصر.. الخ، كما روى كل ذلك في معظم كتبه وذكرياته! واما عن تأميم القناة، فاني اشعر بان عملية التأميم لم تكن مجرد «ردة فعل» ضربها عبد الناصر في وجه الغرب وخاصة في وجه امريكا بسبب رفضها تمويل مصر بصفقات السلاح! انني اذكر ما سمعته قبل التأميم من زميلي الصحافي محمد حسنين هيكل، ونحن في طريقنا الى منزله لتناول طعام الغداء بعد انتهاء فترة العمل الصباحية في دار «اخبار اليوم» بالقاهرة، قال هيكل ىومذاك ان الرئيس عبد الناصر يستعد لكي يعلن تأميم قناة السويس خلال ايام.. وليكن ما يكون! قال شارل مالك مقاطعا: انا اختصر امامك الموقف الامريكي تجاه «زعيمك» عبد الناصر واقول لك لو ارادت امريكا ان تقضي على جمال عبد الناصر وتسقطه من منصبه وتحذف اسمه وصورته من التاريخ المعاصر، لفعلت ذلك خلال التدخل الانجلو ـ فرنسي ـ الاسرائيلي او بعده، ولكن امريكا ـ على عكس ذلك ـ بقيت تبذل اقصى الجهد لكي يبقى عبد الناصر في كرسيه... بل لكي يبقى على قيد الحياة! هذا هو المهم، وما بقي من القصة لا يهم؟

ثم قال: انا اخشى ان الآثار السيئة حول ما اقدم عليه «انتوني ايدن» ضد عبد الناصر في مصر، قد اصابت اعز اصدقاء انتوني ايدن في بغداد، واقرب الزعماء العرب الى قلب الانجليز! وانا اعني بالذات نوري باشا السعيد!!! ان ضربة التدخل العسكري في مصر عام 1956 ستكون القاضية على اقرب اصدقاء بريطانيا في العراق»!! ثم تناول من بين اوراقه المكدسة امامه، ورقة معينة وراح يقرأ منها السطور الاولى للكلمة التي القاها الرئيس ايزنهاور امام الجلسة المشتركة للكونغرس الامريكي وتحدث فيها لاول مرة، عن مشروعه الذي اصبح فيما بعد يحمل اسمه، اعني: «ميثاق ايزنهاور». قال لي «معلمي الفيلسوف» شارل مالك: في الخامس من شهر يناير عام 1957 ألقى الرئيس دوايت ايزنهاور أمام جلسة مشتركة للكونغرس الأمريكي خطاباً تعمد فيه ان يسبغ عن كلامه اهتماماً خاصاً حول السياسة الخارجية للولايات المتحدة وعلاقاتها ـ كما قال ـ بالأمن القومي الأمريكي. ثم أضاف ان هناك حالة خاصة تعم الشرق الأوسط ويريد أن يضعها أمام الكونغرس ما دام السلام القائم على العدل هو الأساس في أهداف امريكا السياسية. وقد وضع ايزنهاور النقاط التالية كأساس لخطابه أمام الكونغرس:

أولاً: ان امريكا تؤيد بلا تحفظ الاهداف الاستقلالية لسائر دول الشرق الأوسط.

ثانياً: ان التدخل العسكري من اسرائيل، والأعمال العدوانية ضد بعض الدول العربية قد تركت غيوماً سوداء فوق المنطقة بأسرها! ثالثاً: ان حكام روسيا ما زالوا يحلمون بالسيطرة على الشرق الأوسط.. منذ عهد القياصرة الى عهد الشيوعية! رابعاً: ان الباعث للطمع الروسي في الشرق الأوسط جاء جزءا من لعبة السياسة الدولية التي تهدف الى... بلشفة العالم بأسره! خامساً: ان في الشرق الأوسط اكثر من ثلثي المخزون البترولي في العالم وسائر دول اوروبا تعتمد كلياً على هذا البترول.

سادساً: ان الولايات المتحدة مستعدة لكي تسند استقلال كل الدول المحبة للحرية في الشرق الأوسط وان تدافع عن كل دولة عربية وتساعد كل دولة عربية تشعر بالخطر على حدودها.

سابعاً: ليس بالجديد على رئيس امريكا ولا على الكونغرس الاعتراف بأن الأمن القومي لبعض الدول المحبة للسلام والحرية، مرتبطة مباشرة بهذه البلاد! وسكت الدكتور شارل مالك لكي يسترجع انفاسه، او لكي يقرأ في وجهي اثر كلامه المبطن معي! وانتهزت الفرصة وقلت له: يا سيدي أنا أشعر بأنني أسعد تلاميذك القدامى لأني احفظ كل هذه المعلومات عن ظهر قلب، ولأني اعرف انك استبقت كلام الرئيس ايزنهاور بثلاثة شهور كاملة وسافرت الى واشنطن في أواخر شهر نوفمبر من عام 1956 لكي تعتني بمساعدة امريكا للبنان عسكرياً واقتصادياً، ولكي، تقول بأن المساعدات العسكرية وحدها «لا تكفي» وان هناك الكثير مما يحتاج الى البحث المشترك بين واشنطن وبيروت! ولكن، أنا أسألك يا سيدي: ماذا كنت تعني في كلامك هذا؟ وما هو الشيء الذي كان «يكفي» اذا كان السلاح وحده لا يكفي؟! وكررت: قل يا سيدي! ما هو الذي يكفي؟ هل هو ارتباط لبنان بعجلة امريكا؟

ولم يبتسم شارل مالك لكلامي بل تجاهل الموقف واستمر يحاضرني وكأني عدت تلميذاً في صفوف الفلسفة تحت قيادته الصارمة على أيام الجامعة الأمريكية، وقال لي: ترى هل جئت لكي تسألني وتستفيد، أم جئت لكي تتهمني وتبني على ظهري موقفاً وطنياً ترضي به رئيسك عبد الناصر؟

وبدوري، تجاهلت سؤاله وتركته يكمل كلامه فقال لي: الأمور في نظري انتهت! فقد وضعت انا اسمي وتوقيعي كوزير للخارجية اللبنانية على وثيقة مشتركة مع السفير الأمريكي «جيمس ريتشارد» في منتصف مارس يتضمن انضمام لبنان الى مشروع ايزنهاور...! أنا انجزت شيئاً كبيراً ، أنا انقذت لبنان من الذوبان والضياع! ثم سألني بصوت مرتفع: هل في هذا اي خطأ؟ انني لم أستلهم في كل ذلك سوى ميثاق الأمم المتحدة، وحقوق بلدي الاستقلالية، وتبادل الثقة بين بلدي الصغير والولايات المتحدة، دون أي تدخل من اي طرف في شؤون الطرف الآخر، ان كل طرف من الطرفين عازم على الدفاع عن استقلال أرضه وكل طرف يعتقد بأن الشيوعية الدولية وحدها تتنافى مع الاستقلال القومي وتبعث الاضطرابات في سلام العالم وكل منها يحرص على التقدم الاجتماعي والاقتصادي لشعبها! قلت مقاطعاً: وأين يا سيدي البند السري المتضمن تبادل التعاون العسكري بين الأطراف الموقعة على ذلك الميثاق؟

قال بحدة: ليس هناك أي بند بهذا المعنى! لقد اتفقنا على تنفيذ عدة مشاريع اقتصادية واجتماعية مع كهربة القرى، واصلاح مجاري الأنهر والشوارع و... الطرقات وتوسيع المطار، وليس سراً ان صديقي السفير «رتشاردز» قد أعلن موافقته على اعطاء لبنان بعض التجهيزات العسكرية لتقوية البنية التحتية للوجود اللبناني العسكري... وهذا كله هو المطلوب والضروري!».

وسألته مقاطعاً: وماذا عن الصلح مع اسرائيل؟! وماذا عن قضية فلسطين؟ وهل يفرض ميثاق ايزنهاور على لبنان صلحاً مع اسرائيل؟ وهل يمهد لمثل هذه الخطوة الخطيرة؟

وارتفع صوته وهو يرد على سؤالي بالانجليزية والعربية معاً: مطلقاً؟ Never... أبدا.. لا.. لا! قلت: ألا يمكن ان يكون في الميثاق ما يعرض حدود لبنان وأرض لبنان الى اخطار التطاحن بين امريكا واعدائها ويصنع حاجزاً نفسياً بين لبنان والدول العربية المجاورة، ويحطم حياد لبنان بين الدول المتصارعة؟

قال وهو يردد نفس الجواب: مطلقاً! Neverـ.. ابداً.. لا شيء من هذا! لا! ولم يعد عندي ما أسأله، فقد تركت موضوع الميثاق لكي اسأل معلمي الدكتور شارل مالك: ولكن.. من يدري؟ قد يخلق هذا المشروع انقساماً في صفوف اللبنانيين ويعود اللبنانيون الى ترديد أغنية: مسلم ومسيحي؟

قال: ولكني انا شخصياً مضطر ان أمشي في هذه السياسة ـ سياسة مسلم ومسيحي ـ لأنها سياسة رئيس الجمهورية، ولأن رئيس الجمهورية مضطر بدوره ان يمشي في تلك السياسة لأنها سياسة كل مسيحي في لبنان! قلت: اسمح لي يا أستاذي المحترم ان أصحح معلوماتك. أنا استشهد بكلام مسؤول ماروني مسيحي معروف هو الاستاذ فؤاد عمون الذي قال في احد كتبه او مقالاته ان حكمة كميل شمعون «خانت» إرادة اللبنانيين ونكصت عن تلك العهود وأخذت تتعاون سراً مع الدول الأعضاء في حلف بغداد، ولا سيما تركيا والعراق، مستمدة من الحكمة العراقية المال الكثير يتسلمه الرئيس كميل شمعون نفسه، ويتصرف به على هواه ومن كليهما كان يأتي السلاح لكي يحارب به الشعب اللبناني الثائر لحرياته وكرامته! قال، وقد بدأ معلمي القديم يفقد أعصابه: لا شمعون ولا أنا حاولنا اغتيال خصومنا السياسيين او حرق بيوتهم! ولكنك تعرف ان خصوم «صاحبك» سامي بك من المسلمين قد حرقوا منزله في قلب بيروت، وحاولوا قتله عند نقطة «المصمودية او المنصورية» على طريق بيت مري اكثر من ثلاث مرات! أليس كذلك؟

ثم أضاف: لست انا ولا كميل شمعون من اطلق لقب «البابا سامي» على زعيم بيروتي مسلم معروف اسمه سامي الصلح لكي يتشبه بمطارنة الفاتيكان ويصبح لقبه الجديد بابا سامي».. تماماً وكأنه المسيحي الكاثوليكي من رجال قداسة بابا روما! ثم أضاف: وهل يجوز لزعيم كبير في وزن جمال عبد الناصر ان يلقي على الملايين المصريين خطاباً في الاسكندرية ويوزع ألقاب الخيانة المطلقة على كل من يقبل بميثاق ايزنهاور؟ ما هذا العمل الطائش؟ ألسنا أحراراً في بلدنا وفي اختيار نوع سياستنا! وهل أصبحنا خونة لأننا رفضنا السير في ركاب مصر وعبد الناصر؟ وهل هكذا يكون العمل العربي الجماعي وهل هكذا نستعيد فلسطين؟

قلت: وهل أقدر ان أقول لك بكل صراحة يا معلمي الدكتور مالك انك كنت نفسك السبب الكبير في الانشقاق والصراع الذي أصاب شعب لبنان بسبب ميثاق ايزنهاور السيئ الذكر! قال بغضب شديد: هذا كلام فارغ، انا رجل مسؤول وانا حريص على سلامة بلدي! انا معني بالحصول على السلام «العصري» لجيش لبنان. وانا أريد ان أبني لبنان لا أن أتركه في الحال التي يرزح تحتها جيش عبد الناصر بلا سلاح ولا تدريب ولا وزن ولا قوة! قلت: ولكنك ـ ايضاً ـ محسوب جيداً، وجداً، على السياسة الأمريكية مما يدعو الى بعض القلق والخوف من بعض الناس في داخل لبنان وفي خارجه! قال: بل ان وجود وزير مثلي في الحكم يجب الا يدعو الى القلق او الخوف بل الى الاطمئنان! انا لا أؤمن بصحة النظرية التي تقول بخرافة الحياد! لأننا ضعفاء وفقراء ولا نملك الوسائل الكافية للدفاع عن انفسنا! هل نسينا مهزلة الجيوش العربية في حرب فلسطين عام 1948؟ وماذا قدم الجيش المصري لكم ـ يا أهل فلسطين ـ في حرب عام 1948؟

قلت: أخشى يا معلمي ان أقول لك بأنك تمشي على خطى نوري باشا السعيد! وان خطواتك ستجلب لك الكراهية التي حملها العرب لباشا العراق! لقد أبدى لبنان تأييده لمشروع الدفاع عن الشرق الأوسط في عام 1951 وعاد لبنان وأيد حلف بغداد في عام 1955! ثم وقف لبنان على «الحياد» المعيب تجاه العدوان الثلاثي على مصر في عام 1956 واليوم يرتمي لبنان في أحضان امريكا ويضرب عرض الحائط بالحياد، وبميثاق عام 1943، وبالانسجام العربي السائد ضد الأحلاف، ويتجاهل التزاماته القومية تجاه أخطر القضايا وأعني بها قضية فلسطين، وكل ذلك لحساب صفقة سياسية لا تختلف كثيرا عن صفقات بيع البصل عندما يطلب البائع الثمن والمشتري يدفع «والصفقة تتم في الظلام او على الملأ...»!

*** دفن الدكتور شارل مالك رأسه بين كفيه وراح يتكلم مع نفسه كما كان يفعل في منتصف الليالي وهو يتنزه في حدائق الجامعة الأمريكية في بيروت، يتحدث الى القطط الضائعة والكلاب الجائعة، ويخاطب النجوم المطلة من السماء، ولا يعود الى مكتبه في الجامعة إلا بعد ان يطلع الفجر...! وسألته وانا اجمع أوراقي استعداداً للانصراف: قل لي يا معلمي! انا عائد غداً الى القاهرة فهل توصيني بشيء! وسمعته يردد كمن مسه الجن والجنون: القاهرة؟ القاهرة؟ لا.. لا.. لا.. لا...!! ثم أكمل: لا قاهرة، ولا اسكندرية، ولا أسوان، ولا بور سعيد، ولا موسكو... ولا عبد الناصر!! فماذا اجبت؟

نواصل في حلقة الاثنين المقبل.

=