حديد الركبتين

TT

قال الرئيس اللبناني الراحل كميل شمعون للرئيس الأسبق أمين الجميل بعد فوزه: «هناك نصيحة واحدة لا غير. ضع في ركبتيك مفاصل من حديد. الباقي ليس مهماً. الخبرة يوفرها المستشارون. والمعلومات تقدمها الاجهزة. والميزان السياسي معروف. والأمن يؤمنه الحراس. انت عليك، فقط، بالحديد»! وقد ربح نابوليون المعارك التي تقدم فيها جنوده، وبدأت المانيا تخسر الحرب عندما ابتنى هتلر لنفسه ولعشيقته ملجأ لا تصله القنابل. وكان المارشال رومل، ساحر حروب المدرعات، يركب الدبابة الاولى ويطل من وسطها بقبعة بدل الخوذة، ثم يأمر الرتل: هيا! جورج بوش ارتكب الخطأ الذي لا يغتفر، عندما اصغى الى مستشاريه الامنيين وغيّر وجهة طائرة الرئاسة من واشنطن الى نبراسكا. وبدت اميركا لساعات طويلة تحترق في علو الأفق وعرضه، فيما الرئيس، القائد الأعلى للقوات المسلحة، غائب عن الانظار، بعيداً عن العاصمة. وعندما عاد، حرص كالمعتاد على ارتكاب خطأ في التعبير اذ وصف الفَعَلة بـ«الشباب» او «الاصحاب». وهي كلمة تقال عادة لمن تريد ان تربّت على كتفه. ووصف الهجوم «بالجبان»، وهو عمل انتحر فيه اكثر من عشرين شخصاً نحروا معهم بضعة آلاف! ولم يعد جورج بوش الى النص اللائق بهول الحدث الا بعد يومين. وتفقد الركام في اليوم الثالث. وزاد ذلك في اهتزاز الصورة للدولة التي لا تقهر: ناطحات السحاب التي ارتفعت في نيويورك مثل شجر السرو منذ اوائل القرن الماضي، تتهاوى مثل بيوت الورق. والسور الأمني يُثقب مثل الأوزون. و«قوة التدخل السريع» التي تطير من جنوب كارولينا الى اي مكان في العالم، عاجزة عن الانتقال الى واشنطن القريبة. ومعالم نيويورك وصورة افقها قد تغيرت تماماً. لقد فرغ الافق من الناطحتين اللتين كنت تراهما وانت تدخل المدينة او تخرج منها، او تشاهد فيلماً عنها بدور «سوبرمان» او «الرجل العنكبوت» او «المستر كادجت» الذي كان يعتلي سطح البرج بسهولة التنزه في الحدائق.

صورة اميركا ـ او اي بلد آخر ـ هي صورة رئيسها. صورة كوبا هي فيدل كاسترو، وليس منا من يعرف اسم وزير خارجيته (اذا كان لديه وزير خارجية). وصورة روسيا، كبرى مساحات الأرض، هي صورة رجل واحد، من فلاديمير ايليتش لينين الى فلاديمير بوتين. وصورة فرنسا طوال نصف قرن ظلت صورة ديغول. واعطت امرأة واحدة صورتها لبريطانيا (ماغي) كما اعطت «الموناليزا» صورتها لمتحف اللوفر، فأصبح وكأن اهم متحف في العالم ليس فيه سواها. الأزمة هي القائد. والأمة هي الزعيم. وفي لحظة ما، لا تعود اهمية القائد او الزعيم في عقله واستشرافه واحاطته وتبصره، بل في ما وصفه كميل شمعون «بحديد الركبتين»، بعكس فلسفة الشعراء بأن «الرأي قبل شجاعة الشجعان». وذلك لأن جنابهم يملكون من الآراء اكثر بكثير مما يملكون من الشجاعة. اذا توافرت. وانا لا اعني عنترة ولا ابو الطيب ولا شواذ القاعدة، وانما اعني عموم بني شعر وأدب. ورحم الله كمال ناصر، فقد كان يطيب له ان يروي دائماً نكتة عن نفسه، عندما عوتب على عدم اقدامه، فسحب هويته من جيبه وقال لصاحبه: «اقرأ ما هو مكتوب هنا: كمال ناصر، وليس عنترة بن شداد».

يقول المثل الانكليزي: «الذي يتجرأ، ينتصر». وقد نجا نابوليون من محاولة اغتيال عندما واجه الجندي الذي ارسل لقتله قائلاً له: «ان يدك ترتجف، وهذا دليل على انك لست من جنود بونابرت. فلو كنت من جنودي لأطلقت النار علي دون ان يرف لك جفن». ورمى الرجل مسدسه وركع: «الحياة لا تليق إلا لسيدي الامبراطور».