من غير «لكن»

TT

الاعمال الارهابية التي هزت نيويورك وواشنطن يوم الثلاثاء، الحادي عشر من سبتمبر الجاري، تمثل فاصلا زمنيا بين عالم ما قبل الانفجارات وعالم ما بعدها. فاصل بين قوى الدمار والظلام وبين الضحايا الذين ماتوا وهم يؤدون اعمالهم اليومية، تاركين خلفهم اطفالا يحلمون بالمستقبل وأسرا كانت تنتظرهم على مائدة العشاء. فاصل بين عالم الجريمة وعالم الالتزام. بين عالم يحاول البناء وبين قوى الهدم والدمار.

قد يحلو للبعض، وخصوصا لمدعي العلم بالاسباب، ان ينظروا الى المأساة في اطار انها ذات جذور واصول يرجع بعضها الى السياسات الامريكية العالمية. هذا نوع من عدم الوضوح، وكذلك هو نوع من التلاعب. ان عبارات «ندين الارهاب، ولكن» او «نحن محزونون على ما حدث، ولكن»، هي عبارات غير مقبولة. إما ان ندين الارهاب بوضوح أو لا ندينه، إما نكون محزونين، او لا نكون.

في مثل هذه المآسي الانسانية، لا يمكن ان تمسك العصا من الوسط.

الخط واضح ما بين قوى الانسانية، وقوى الارهاب. والخط الفاصل واضح ما بين الانسان واللاانسان.

الخط الفاصل واضح ايضا ما بين المجرمين وأهل الدمار، وبين الملتزمين واهل العمار. فليحدد كل منا موقفه وبوضوح... ومن غير «لكن».

ان موت الآلاف وبقاءهم تحت الانقاض هو جريمة لا تغتفر.

ما حدث في نيويورك، يمكن ان يحدث في القاهرة، او في عمان، او في الرياض. ليست هناك رحمة في قلوب قوى الظلام والدمار، فهي قوى لا تعترف بعلاقات الدم، او الاخوة الانسانية، هي قوى تعمل لمصلحتها فقط.

حسب كل التقارير، السيد عطا وابن عمه المتهمان للقيام بالعمليات الانتحارية، لم يقضيا ليلتهما يقومان الليل، بل امضياها مخمورين في البارات في فلوريدا وغيرها! لا ادري اية اصولية اسلامية، او اي اسلام يتبع هؤلاء؟! واضح ان هؤلاء مجرمون لا مسلمون. وما اكثر من يلفون انفسهم في عباءة الاسلام والاسلام منهم براء.

الاختبار الآن واضح للجميع، وكذلك السؤال: هل انتم في صف ان يحيا الانسان حياته في امان، يؤدي عمله اينما كان دونما رعب؟ ام انكم مع قوى الظلام والدمار والارهاب؟ لا مكان، للاجابة: «نعم معكم.. ولكن»، او «ضدكم.. ولكن».

لقد تبين الخيط الاسود من الخيط الابيض، تبين الرشد وقواه، وكذلك الظلام والجنون واتباعه، فعلى اي ارض انتم واقفون؟ وعلى اي جانب من الخط الفاصل انتم تصطفون؟ ومن غير لكن! لم تعد مسألة الدمار هذه خصوصية امريكية. فالانسان هو الانسان، دونما النظر الى جنسيته، او جنسه، او عرقه او دينه او لغته، اليس ذلك ما يطالب العرب به العالم؟ اليس ذلك ما نطالب به الولايات المتحدة عندما نتحدث عن حماية العرب الامريكيين او المسلمين الامريكيين؟ نطالب بالعدل دائما، أليس من العدل ان نكون عادلين تجاه الآخرين ايضا؟ ان فاقد الشيء لا يعطيه، لا بد ان نكون عادلين اولا، حتى يسمعنا الآخرون عندما نطالبهم بالعدل. وفي العدل ايضا، هناك ظالم ومظلوم، قاتل ومقتول، ثواب وعقاب. نعم تلك مفاهيم الابيض والاسود، والمواقف في هذه الحالات لا تتطلب اكثر من ذلك، لا مكان لـ«عدل.. ولكن»، او «ظلم.. ولكن»، هنا يوجد خيار واحد: اما ان نكون مع الظالم ونشجعه على ظلمه وطغيانه ونسلم قياداتنا ومصيرنا لقوى الظلم والدمار، او ان نسلم انفسنا ومجتمعاتنا لقوى العدل والرشد. هذا هو خيارنا في بداية هذا القرن الجديد.

وأيا كان تحفظ العرب على سياسات امريكا، فليس هذا وقت العتاب. لكل مقام مقال، فلتؤجلوا «ولكن» الى وقت آخر، ولتنضموا وتتحالفوا جميعا ضد قوى الظلام والدمار، ولا يأخذكم الغرور الى درجة انكار انسانيتكم. هذا لا يعني إنكار الفرق الواضح ايضا بين الارهاب الطائش الهادف الى الدمار من اجل الدمار، وبين حقوق الشعوب في مقاومة المحتل في كل زمان ومكان.

رغم كل هذا الحزن وكل هذا الغضب في المجتمع الامريكي، كان رائعا من الرئيس بوش وكذلك وزير خارجيته، وكذلك وزير العدل والنواب والشيوخ ان يدافعوا عن العرب الامريكيين وعن المسلمين الامريكيين في عز الحر وعز الحملة. وفي عين الغضب، كذلك كان الاعلام الامريكي حذرا في تعميماته واستضافت القنوات التلفزيونية الكثير من المسلمين والعرب للتعبير عن مخاوفهم. كل ذلك يصب في انسانية هذا المجتمع. ايا كان النقد الذي يوجه اليهم، في قمة الغضب وقمة الحزن استطاع الامريكيون قيادة وشعبا، التفريق ما بين المجرم وديانته، وكذلك ابناء جلدته.

هذا امر يحسب لهذا المجتمع لا عليه، وكم اتمنى ان نصل في لحظة غضبنا الى هذا الحد، الذي لا نأخذ فيه الناس بسيئات الآخرين، ونبتعد عن مبدأ «الحسنة تخص والسيئة تعم» الى مبدأ «الحسنة تعم والسيئة تخص». كان موقف المجتمع الامريكي من المسلمين والعرب داخله موقفا يمثل رقيا في الروح الانسانية.

وما تلك بنهاية المطاف، فلنطالب انفسنا والآخرين بالرقي اكثر.

ان التستر على الارهاب وجماعاته من خلال العبارات الغائمة، مثل: «نعم ولكن» لهو تضليل ما بعده تضليل. لا بد ان نواجه هذه القوى بحسم، اما ان يكون للارهاب ورجالاته قناة فضائية تقدم نفسها على انها القناة الوحيدة المدافعة عن حرية التعبير، ثم تخص قيادات الارهاب من دون غيرها بالمقابلات، فذلك نوع من خلط للاوراق. فرجال الارهاب لا يخصون ايضا قناة بعينها بالمقابلات من اجل «سواد عينيها» بل لان في هذه القناة رجالا حملوا السلاح في افغانستان، وهذا لا يعيبهم، اما الآن فاننا نراهم في بدلة من ثلاث قطع، يقدمون برامجهم التي تروج لنفس الفكر.

هذه القوى هي نفسها التي اطلقت الرصاص على الرئيس مبارك في اديس ابابا، وهي ايضا التي ذبحت السياح في الاقصر دونما رحمة. وكلما تحدثنا عن هؤلاء، كان دائما بيننا من يقولون «انهم مجرمون.. ولكن»! اي «لكن» تلك التي تبرر القتل في الجزائر وفي مصر وتبرر الاغتيالات وقتل الابرياء؟

ان ما اقوله هنا ليس دفاعا عن امريكا، بل هو دفاع عن حق الانسان في ان يعيش في امان. كل انسان.. لا فرق بين عربي او اعجمي، ابيض او اسود، غني او فقير. ان للعرب صورة حضارية، وتاريخا انسانيا، وقوانين وعادات وتقاليد كلها تشيد بالرجولة والمواجهة وتستنكر العمل في الظلام، تقول بأن صاحب الحق قادر على المبارزة والمواجهة، وليس بين امثال العرب او ادبياتهم ما يشيد بالغدر او الجبن. فليكن ما حصل هو اللحظة التي يذكّر العرب فيها العالم بالمعاني السامية في حضارتهم وتراثهم الانساني. ولا يتأتى ذلك الا من خلال المواقف الواضحة. اما من يقولون «ندين ولكن» في هذه اللحظة فهم قوم يضحون بكل ما هو نبيل وسام في الحضارة العربية من اجل غرور ذاتي ومكابرة شخصية.

هذه فرصة قادة المسلمين وقادة العرب في ان يوضحوا للعالم ان دينهم لا يقبل مثل هذه الاعمال، وان حضارتهم ترفض هذا العنف، تلفظ قاتلي الابرياء، ولا مكان بينهم للجناة الذين يطعنون الآمنين من الخلف. الاسلام ارقى بكثير من هؤلاء المخمورين. للاسلام رسالة انسانية ووجه انساني وحضاري لا بد من توضيحه. وهذا التوضيح لا يتأتى من خلال عبارات مقسومة تجعل الادانة في الجزء الاول منها ثم تأتي بعد ذلك «ولكن» كي تنفي ما قبلها.

ليس من مصلحة العرب ان تضعف الولايات المتحدة، وليس من مصلحة العرب ان يبنى النظام العالمي الجديد في اطار هم خارجه، او ان يصنفوا على انهم اعداؤه، فقط لان بعضهم وفي لحظة مكابرة مبنية على علاقة دم مع مجرم، قرروا ان يناصروا هذا المجرم حتى في ظلمه! لا بد ان يحرص العرب على وجودهم داخل هذا البناء الجديد، ويلفظوا قوى الظلام، لانهم ذاقوا مرارة اعتداءاتهم الآثمة منذ اعوام قبل ان تتعرض امريكا لهذه الموجة الارهابية.

الغالبية العظمى من الشعوب العربية حزنت وبشدة لقتل الابرياء في نيويورك وواشنطن وبنسلفانيا. هؤلاء هم العرب، اما مجموعة «ولكن» فهم قوم يحزنون على حرف بينما يباركون الارهاب سرا.