انطباعات عن انفجارات أمريكا

TT

لم اعرف في حياتي تمزقا نفسيا كالذي عشته يوم الثلاثاء الماضي وانا اهرول عبر الفضائيات العربية والاجنبية لاعرف كل ما حدث ويحدث. كانت الصور رهيبة تفوق كل وصف، وكان تصور ما يحدث داخل المباني قبل انهيارها شيئا يثير القشعريرة في الجسم ويدفع بالعرق البارد الى الجباه.

ثم فرضت نفسها على ذاكرتي احداث اخرى، ورحت اتساءل فجأة: هل كان ما عاشه ضحايا انفجارات امريكا هو نفسه ما عاشه ضحايا هجومات الاباتشي الامريكية على المنازل الفلسطينية، وهل كان لهيب الحرائق كلهيب النابالم الذي تعرض له المدنيون في فيتنام، وهل كانت اللحظات الاخيرة التي عاشها ركاب الطائرات المدنية كتلك اللحظات التي عاشها ركاب الطائرة المدنية الليبية التي اسقطتها اسرائيل فوق سيناء.

واللهم لا شماتة، ولقد شاءت ارادة الله ان تعيش الولايات المتحدة للمرة الاولى على ارضها وضعية الحرب التي عاشتها دول كثيرة تعرضت للقصف الامريكي في القرن الماضي، من المانيا الى اليابان، ومن فيتنام الى بغداد.

والملاحظة الاولى هي ان الرئيس بوش تصرف بأعلى مستوى من الحكمة، وكانت تصريحاته دليلا على المستوى الراقي للمستشارين الذين يعدون له، كأي رئيس دولة في العالم، تصريحاته وبياناته ويصوغون صورته الجماهيرية.

كانت كل كلمة في خطبه موزونة ومحسوبة، ولم تكن انفجار غضب احمق بدون تقدير لعواقب القنابل اللفظية، خصوصا وهو يؤكد ان ما حدث على ارض مانهاتن ليس عملا ترويعيا ـ Terrorisme ولكنه حالة حرب War، وهو تعبير بالغ الخطورة، لأن الحرب، عندما تعلنها دولة ما، تعني بان المنطلق هو مشروعية الدفاع عن النفس، أي مشروعية استعمال كل الوسائل، بما في ذلك تحويل الامم المتحدة الى مؤسسة تحت الطلب، واختراق حرمة وسيادة أي بلد بحجة الشرعية الدولية.

ولقد اخترت كلمة «ترويع» لانها الترجمة الحقيقية للعمل الاجرامي الذي يستهدف المدنيين والشيوخ والاطفال، والذي نستعمل، خطأ، لتسميته كلمة «الارهاب»، التي فرضت علينا كترجمة لكلمة Terrorisme، في حين ان الارهاب ليس بالضرورة تعبيرا قدحيا، حيث انه يمثل ما يجب ان يواجه به «.... عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم»، وهو بالتالي امر مشروع. لكن التعبير كان يقف في حلق كل الذين يريدون استخلاف البعبع الشيوعي ببعبع جديد، حدث ان كان البعبع الاسلامي، الذي ساهمت حماقاتنا في زيادة ملامحه بشاعة.

وهنا تأتي الملاحظة الثانية.

فلو حاولنا، بنوع من المضاربة الفكرية ان نحدد المسؤولين عما حدث في مانهاتن لكان علينا ان نسير على درب سؤال اغاثا كريستي القديم ـ الجديد.. من المستفيد من الجريمة؟

ولعل الجديد هنا، والذي يجب ان يؤخذ في عين الاعتبار قبل التسرع في الاجابة، هو ذلك التنظيم الدقيق للعمليات، والذي لا يمكن ان يتحقق الا بفضل حجم كبير من العلم والخبرة ومعرفة ارضية المعركة.

وخبراء اختطاف الطائرات يرون ان كل عملية تتطلب خمسة اشخاص على الاقل، بين خاطف في الجو ومتواطئ على الارض، وإذا صدقنا بان حوالي عشر طائرات كانت معدة للاختطاف فإن هذا يعني ان خمسين شخصا على الاقل كانوا مجندين لتلك العمليات.

ويؤكد اختيار الاهداف المستوى السياسي العالي للمخططين، الذين حرصوا على رمزيتها، بالاضافة الى ما ترمز اليه امريكا نفسها من قوة وجبروت، قد لا تمس هيبتها ضرب اهداف خارج ترابها، ولكن هيبتها تفقد عذريتها تماما عندما تكون الاهداف في مجال عورتها الامنية.

ولأن عملية من هذا النوع لا يتم الاعداد لها في ايام او حتى في اسابيع قليلة، وبالنظر الى عدد المتقاعدين من الجيش، ممن خاضوا حروبا كثيرة وتمرنوا على كل الاحتمالات واستوعبوا كل صور التقدم التكنولوجي، وإذا تصورنا حجم التجمعات الدينية والمذهبية بمختلف اتجاهاتها، فإن الاستنتاج الاول يؤكد أن الفاعل الرئيس وراء تفجيرات واشنطن ونيويورك مواطنون امريكيون، فهم وحدهم الذين يجمعون بين الخبرة والدوافع وسهولة التحرك بدون اثارة لأي شبهة.

ولا بد هنا من تخيل كمية الاموال المطلوبة لعمليات بهذا الحجم والتي لا يمكن ان تتوفر إلا لمن يملكون اموالا سائلة لا يعرف مصدرها الحقيقي.

لكن هناك عنصرا آخر يجب ان نتوقف عنده فيما يتعلق بالعمل الانتحاري، الذي يدفع طيارا، أي شخصا سويا ناضجا متفوقا علميا وتقنيا، الى التضحية بنفسه بأسلوب شمشون الجبار.

تضحية كهذه لا توجد إلا في حالتين.

فقد تكون تصرفا واعيا مبنيا على ايمان عميق، وهو ما لا يتوفر إلا عند المناضلين المؤمنين بقضيتهم المستعدين لكل عمل يقتنعون بأنه يخدمها، كالاسلاميين او اليابانيين او الثوريين الفلسطينيين، او تكون تعبيرا عن احقاد زرعت في نفوس متطرفين عقائديين، فجعلت منهم قنابل من التعصب الاعمى لا تعرف حدودا ولا ضوابط، مثل انصار مفجر اوكلاهوما.

وفي الحالة الاولى نجد ان المناضلين يحرصون على ان يكون لعملياتهم اقل حجم ممكن من الضحايا الابرياء (والبراءة هنا تعني البراءة المطلقة، المباشرة وغير المباشرة). وفي الحالة الثانية، نجد إرادة اجرامية في تضخيم عدد الضحايا، وهو ما يتضح من تفجيرات واشنطن ونيويورك، وقبل ذلك اوكلاهوما.

واذا خلطنا هذه الاعتبارات كلها وحاولنا وضع قائمة المتهمين لكان على رأس القائمة امثال الجماعات التي جعلت من «تيموثي ماكفي» شهيدا، وسنجد ان كل العناصر متوفرة عند هؤلاء، فهناك التعصب الاعمى، وهناك عنصر الحقد وإرادة الانتقام والاستعداد للتضحية الكبرى، وهناك المستوى العلمي والتقني، وهناك عنصر التغطية الذي لا يتوفر لاجنبي، وامكانيات التواطؤ داخل المجتمع الامريكي.

وهنا، يجب ألا ننسى ان هناك احياء ما زالوا يجرمون قنبلة امريكا لهيروشيما وناغازاكي، بحجة الانتقام لقصف اليابانيين لبيرل هاربور، الذي لم يكن في امريكا، ولقد كانت القنبلة الذرية انذارا مبكرا للاتحاد السوفيتي بانه ليس الاول في المعادلة الدولية الجديدة، وكان ذلك بداية سباق التسلح النووي، الذي قاد الى وضعية اكثر خطورة وهي تقاتل الدول العظمى عبر اطراف محلية في حروب صغيرة، اصبحت مجالا لتجربة الاسلحة الجديدة على ارض الغير.

ولقد تبارى الاعلام الغربي في تقديم صورة حفنة من الفلسطينيين، اعلنوا عن سرورهم بما سمعوه قبل ان تتضح صورة الكارثة بكل ابعادها، ولم يحاول احد ان يضع احتمال ان يكون اولئك الافراد ممن قتل الاسرائيليون بالامس لهم غدرا اخا او زوجا او ابنا.

ولم نسمع من اشمأز مما قاله كاتب فرنسي، من انه «يشعر بنشوة هائلة عندما يسمع بان رصاصة اصابت فلسطينية حاملا او طفلا فلسطينيا».

وعندما نتابع ردود الفعل على الساحة الاسرائيلية، التي تسابق زعماؤها الى تأكيد وحدة المصير الامريكي ـ الاسرائيلي ووحدة الكفاح ضد «الارهاب» عبر تصريحات تعكس حجما كبيرا من التلذذ بما حدث، تفضحه قسمات الوجوه، نحس بأن المتهم الاول هو مصالح الموساد الاسرائيلي، بدون ان يعني هذا عدم وجود حجم كبير من الاختراقات في تجمعات مذهبية امريكية، او عدم وجود مخالب قط عربية او اسلامية.

والغريب ان احدا لم يطرح الاحتمال الاسرائيلي، وكمجرد احتمال ضئيل جدا، وكأن ذلك اعتراف ضمني بان الاسرائيلي جبان لا يجرؤ على ضرب عدوه إلا تحت مظلة حماية مضمونة، او من وراء حصون مشيدة، وهو ما لا ينفي التواطؤ او التحريض او التمويل.

ولقد كان ما حدث فرصة لروسيا لكي تستجدي الدعم من الغرب في حربها ضد الشيشان، كما كانت فرصة للمعلقين الفرنسيين لكي يذكروا بحادث اختطاف الطائرة الفرنسية في مطار الجزائر، والذي تؤكد مصادر كثيرة بأنه كان عملا مفتعلا، استعمل مخالب قط على شكل افراد محدودي التكوين لتمرير مخطط عزل الجزائر.

ومما يعتبر دليلا على ذلك قتل فيتنامي وطباخ للسفارة الفرنسية، في حين لم تمس شعرة من رأس فرحات مهني، المكروه من الاسلاميين، والذي كان من ركاب الطائرة. وبالطبع فإن الصحافة الفرنسية عندنا اكدت مرة اخرى انتماءها الحقيقي، وراحت تروج لمقولة «ماري دو لاغورس» بان ما حدث «عمل تقليدي (عادي) لجماعة اسلامية»، وهي فرصة اتساءل فيها عن معنى ما نسب لرجل دين عربي قال بأن «ما حدث يبدو وكأنه هجوم على الاسلام»، بدلا من ان يسكت او يقول شيئا مفيدا.

ان التحدي الحقيقي الذي يواجهه الرئيس بوش ليس في الانتقام، فهو امر في مقدوره بكل بساطة، ولكنه اولا وقبل كل شيء الاطمئنان الى نزاهة التحقيقات (وقضية كينيدي ما زالت في الذاكرة) ثم التصرف بحكمة وبنزاهة تعطي القوة الامريكية صفة العدل لا صورة الحماقة، وهذا وحده هو الذي يعوضها عن المأساة، ويمكنها من استرجاع تألقها.