أيُّ أميركا... بعد «أم الكوارث»؟!

TT

في الوقت الذي ندعو بالرحمة للأبرياء الذين سقطوا ضحية اخطر عملية ارهابية تعرضت لها مراكز صنع القرار السياسي والعسكري في الولايات المتحدة، والمركز التجاري الدولي الذي هو رمز الازدهار المالي للولايات المتحدة... وفي الوقت الذي نتمنى للجرحى والمصعوقين برء الجراح واستعادة الوعي من جراء الصدمة، والعودة من جديد الى ممارسة حياتهم العادية... وفي الوقت الذي نتمنى انحسار الذعر الناشىء عن العملية الارهابية، وبذلك يغادر المواطن الاميركي الكابوس الذي انقضَّ عليه كالصاعقة وفي اعتقاده أنه محصَّن من اي كوابيس وأي ارهاب... في الوقت نفسه هنالك بعض الملاحظات والتمنيات التي نتمنى ان يأخذها الاميركي، حاكما ومحكوما، في الاعتبار وهو يلملم الجراح النفسية والمعنوية والجسدية من بين الانقاض الناشئة عن «ام الكوارث». وابرز هذه التمنيات والملاحظات خمس، وهي على النحو الآتي:

اولاً: ان يتعظ الاميركي، حاكما ومحكوما، من الذي جرى، وان يرى ان الذي اصابه هو ما كتبه الله له، وانه سبحانه وتعالى هو الذي يعطي وهو الذي يأخذ. واذا اتعظ الاميركي، حاكما ومحكوما، مما حصل للولايات المتحدة يوم الثلاثاء، الموافق للحادي عشر من ايلول (سبتمبر) الجاري، وتأمّل في اسبابه وما جرّته عليه الأبهة الناشئة عن الهيمنة والتمسك بأحادية القرار في العالم، وغض النظر عن سياسات حكومة مثل حكومة شارون وعدوانها على الشعب الفلسطيني، فهذا معناه ان اميركا تكون قد بدأت السير على الطريق الصحيح، وبدأت تجد العلاج للمحنة التي اصابتها.

ثانياً: ان المواطن الاميركي متقاعس عن واجب تنبيه حكامه لخطورة عقم تفكيرهم وخطأ مفاهيم سياستهم نحو الآخرين. ومن شأن التأمل في الكارثة التي ضربت الاميركيين وألحقت بهم رعباً لا مثيل له، ان يجعل هؤلاء يتذكرون انهم كانوا على خطأ عندما لم يقفوا في وجه مظالم اداراتهم في التعامل مع الآخرين. ولو أن الرأي العام الاميركي سجَّل وقفة حازمة مرة واحدة في مواجهة مسلسل شارون في ارتكاب المجازر والأذى والقتل ضد الفلسطينيين لما كان لهذا المسلسل ان يتواصل. بل انه لو انتقدت الأم الاميركية السياسات الخارجية لحكومتها، بدل ان تتصرف كما لو أن الامر لا يعنيها... انها لو فعلت ذلك وإلى حد التظاهر امام البيت الابيض استنكاراً لما فعله الرؤساء الذين تعاقبوا على الحكم من ريغان إلى بوش الابن، لكانت ستجد أن كل بيت فلسطيني، وكل بيت عربي، بل وكل بيت في العالم الاسلامي، يبدي الأسف والحزن على الذي حدث.

لكن، مع ذلك، ليس في بيوت العرب والمسلمين من يشمت لما جرى للولايات المتحدة في نيويورك وواشنطن. لماذا؟ لأن في قلوب العرب والمسلمين مساحة من الروحانية تجعل المرء لا يشمت حتى من عدوه في لحظة الموت، وذلك على اساس ان الله هو الذي يحاسب، وهو الذي يرحم، وهو الذي يغفر.

ثم، وبدلاً من ان يستسلم الرأي العام الاميركي للتحريض الصهيوني الذي بدأ على الفور افتعال استفتاءات الرأي التي يتقنها في حرب التحريض ضدنا، عليه ان يُهدِّئ من روعه ويطلب من حكامه ومؤسساته التبصر والبحث في عمق الاسباب التي جعلت العملية الارهابية تحدث على نحو ما حدث، بدلاً من التأهب للانقضاض هنا او هناك او هنالك على اهداف قد يبدو الانقضاض عليها بمثابة التأسيس لإرهاب جديد، هذا الى جانب انها قد يتبين لاحقا انها اهداف خاطئة، وعندها لا يصلح الاعتذار، ولا مجال حتى للندم.

ثالثا: من المهم ان يتساءل الاميركي حاكماً او محكوماً عن السر في ان ما اصاب اميركا لم يصب اي امة او دولة اخرى. وهو اذا اطلق هذا التساؤل سيرى بالضرورة نفسه يعيد النظر في النهج والاسلوب والتعامل مع القضايا وبمعزل عن الحقد والثأر والاستبداد.

رابعاً: لقد تبين من خلال ردود الفعل ان هنالك شهية اطلسية لكي تنتهز كل دولة فرصة الكارثة الاميركية وتضع يدها على هذا البلد العربي او ذاك بحجة الحرص على الديمقراطية ودرء الخطر الارهابي عن اميركا والعالم الحر.

ان من واجب اميركا استباق الامور، وإلاَّ تكون شريعة الغاب عادت تحكم العالم في القرن الحادي والعشرين، لينتهى العالم بحراً #*\ٌ فيه اسماك القرش الاسماك الصغيرة. وسيحدث ذلك بحجة ما اصاب اميركا. ونجد انفسنا، في هذا السياق، نشير الى ان العرب والمسلمين هم اكثر شعوب العالم رغبة في العلاقة المتوازنة مع اميركا وأقلُّهم حسداً لها، مع انهم في الوقت نفسه رمز التضرر منها، في حين ان دول الاطلسي هي في قرارة نفسها اكثر الدول حسداً لأميركا وغيرة وانزعاجاً منها لأنها تقطع الطريق على مكاسب يجنونها من العرب والمسلمين وتحتكر لنفسها هذه المكاسب.

خامساً: في تراثنا العربي والاسلامي قول مأثور للإمام علي بن ابي طالب، رضي الله عنه، من مصلحة الاميركي حاكماً ومحكوماً التأمل فيه، وهو:

ما اكثر العِبَر وأقل الاعتبار.

وترجمته بالانكليزية:

Too Many Lessons, Too Few Considerations.

وهناك قول مأثور آخر للصحابي الجليل ابي ذر الغفاري هو:

عجِبْتُ لمن لا يجد القوت في بيته كيف لا يخرج على الناس شاهراً سيفه.

وترجمته بالانكليزية: It astonishes me if he who cannot find food in his house does not go out drawing his Sword at people.

ونخلص بعد هذه التمنيات والملاحظات الى القول انه يكفي اميركا والاميركيين والعالم ما فعله اولئك الذين نفذوا العملية الارهابية. والمطلوب الآن من الجميع، وفي الدرجة الاولى من الاميركيين شعباً ورئيساً ومؤسسات، ان يُكثروا من التأمل في العِبَر، وهي كثيرة، فلعل من اعتاد على ألا يعتبر ان يقرر الاعتبار، ويبدأ العالم من جديد، وبصيغة تشارُكية، عهداً اكثر نقاء وصفاء ومحبة، عهدا خالياً من اية موجبات لاستعادة الحقوق او التذكير بها، بواسطة الارهاب الارضي او الجوي... لا فرق.