قراءة في الركام: من كابل إلى نيويورك

TT

مَّر أكثر من أسبوع الآن على محرقة نيويورك، ولا تزال ناطحات السحاب تتهاوى حول موضع الكارثة، ولا يزال رجال الانقاذ يبحثون في الركام عن أحياء أو اشلاء أو آثار لم تحترق في بركان بلغت حرارته ستة آلاف درجة، أو عن أناس نجوا بعدما نزلوا للدرج الخلفي من الطابق المائة أو الطابق الثمانين... في ساعة ونصف الساعة على الأقل! لقد كتبت هنا يوم الخميس الماضي، ان فريقين سوف يجلسان ويتأملان ما حدث: الفاعل والمفعول به. وكتبت ان كلاهما لن يستطيع ان يدرك او ان يستوعب هول وحجم ما وقع. والآن، بعد اسبوع كامل من الصور المريعة والمشاهد التي لم يرَ العالم مثيلا لها من قبل، اعتقد اننا لن ندرك ابداً المدى الحقيقي للكارثة، وسوف نبدأ قريباً في تذكرها واستعادتها على انها هول تاريخي فيه من الخيال أكثر مما فيه من الحقيقة، لأنها حقيقة لا يمكن للعقل البشري ان يستوعب تفاصيلها وانعكاساتها ومفاعيلها وتأثيرها النفسي على مسار التاريخ في كل مكان.

وقلت الخميس الماضي (واعتذر بصدق وعمق عن هذا الاستشهاد السخيف بالنفس) ان اميركا افاقت فجأة لترى كم هي سريعة العطب، لكن الحقيقة ان العالم اجمع، تنبه بعد ايام الى انه كله كرة سريعة العطب، ليست في مأمن من أحد ولا من شيء، فالبلاد التي تحكمها السلطة جلست تخاف من ردود الفعل الاميركية، والبلاد التي يحكمها القانون والمجتمع المدني انطلق افرادها خلف العرب والمسلمين في كل مكان، يعتدون عليهم بالرصاص أو بالضرب أو بالاهانات، وفجأة شعر العرب في اميركا انهم مستهدفون مثل اليهود في ألمانيا قبيل الحرب، غير قادرين على مغادرة منازلهم أو الذهاب الى أعمالهم ومتاجرهم، واشارات الصليب المعكوف النازية ترسم على بيوتهم ومدارسهم.

لا نزال على بعد اسبوع واحد من محرقة نيويورك. الدماء تفور بالخوف أو بالحقد أو بالثأر. وكلما ارتفع حجر (كما قلت الخميس الماضي مع شديد الاعتذار، ولكن فقط لضرورة التأكيد) رأينا تحته حقيقة جديدة، حقيقة مذهلة جديدة. كأن نعرف ان بين ضحايا البرج المحترق 2500 محام و 2000 من أشهر وأهم خبراء المال، أو كأن نعرف ان الرجل الذي هاجم الخاطفين (مع رفيقين له) في الطائرة التي سقطت فوق بنسلفانيا فعل ذلك بتشجيع من زوجته، التي ظل يصف لها الامر على الهاتف النقال، طوال عشرين دقيقة، ولن يعرف أحد منا، في أي يوم أو أي عام، كل القصص الانسانية التي حدثت. فقد قضى الألوف ومعهم ذكريات اللحظات الاخيرة من الجحيم المعلق في سماء نيويورك. الجحيم المزدوج الذي اخفق في توقع الضربة الأولى ولما وقعت اخفق في توقع الثانية ولما وقعت اخفق في ادراك ما هو فيه وما سيقع له وما سيقع عليه.

كل ذلك مأساة لا حد لمآسيها ولا قعر لعمقها ولا حدود لما ستتركه جنازاتها الجماعية على النفوس. فاذا كان جزء كبير من الانتفاضة الفلسطينية قد ولد من مشهد الجنازات ومشاعرها، فإن الجنازات الرمزية الي ستقام لجثث ضاع حتى رمادها، سوف تترك في نفوس الاميركيين المزيد من الهول والمزيد من الخوف والمزيد من الحزن والمزيد من الرغبة في الثأر.

اذا كان قتل فرد واحد، فرد اعزل واحد، جريمة يعاقب عليها بالموت، يمكن لنا ان نتصور عقاب جريمة تحمل كل هذه البرودة من الدماء وكل هذه الجثث من الأطفال والنساء والرجال العزل، وهناك نوع من الجرائم يجد له القانون اسبابا تخفيفية، مثل جريمة الدفاع عن النفس، لكن جرائم العمد والقصد لا تحمل أي تخفيف ولا تدخل في الاعمال التي يلحقها العفو، وفي محرقة نيويورك، وخطف الطائرات الاربع، والحاق كل هذا التدمير الحربي بتجمع مدني، لا تبرير ولا تخفيف ولا ظروف تخفيفية.

هذا في تأمل الجريمة والفاعل، لكن لا يمكننا الا ان نتوقف، وان نتوقف طويلا عند اميركا التي رأيناها لأول مرة في التاريخ، ضحية في هذا الحجم وعلى هذا النطاق، ولم تكن اميركا في حاجة الى مثل هذه المأساة، أو هذه الكارثة، لكي تقف وتتأمل في دورها حول العالم، في زهوها السياسي، في هجوميتها الاقتصادية التي لا ضوابط لها ولا أحكام، في اندفاعها لقولبة العالم على صورتها، في تجاهلها للنسائج البشرية حول الكون، في عدم ادراكها الا انه من المستحيل فرض «نظرية السوق» على مجتمعات مثل اندونيسيا أو الهند أو الصين، وفي انطلاقها لنشر ثقافة وفلسفة «الاستهلاك» على اناس بالمليارات، لا يحلمون برأس من البطاطا المسلوقة في اليوم.

كل التذمر أو الحقد أو النقد الذي يكنه بعض العالم لكل اميركا، لا يبرر خطف طائرة مدنية واحدة، ولا سقوط طابق واحد من البرج التجاري، ومع ذلك، ففي ساعة الحزن هذه، على اميركا ان تطرح على نفسها اسئلة الخطأ والصواب وليس فقط تساؤلات الثواب والعقاب على الاخرين.

لقد عادت اميركا ـ ومعها أوروبا ـ الى استخدام تعبير «العالم الحر» الذي كان يميز الغرب عن العالم الشيوعي. و«العالم الحر» يضم في مفهوم اليوم، روسيا وأوروبا الشرقية والى حد ما الصين، ولكن من هو العالم الآخر، أو العالم المقابل؟ ان الدنيا اليوم مقسمة في الحقيقة الى عالمين: العالم البائس والغرب. واذا تطلعت واشنطن قليلا في الخريطة رأت فقرا وبؤسا وحروبا لا نهاية لها، على امتداد آسيا وافريقيا واميركا اللاتينية والشرق الأوسط. وانا كمواطن في هذه الارض، لن انسى في عمري ان اميركا تركت 800 ألف انسان يقتلون بالسواطير في رواندة، من دون ان ترسل قوة عسكرية الى هناك.

ذلك ان اميركا تملك الخيار. تملك حق التصويت. كل فرد بالغ سن الرشد له حق الاقتراع، حتى لو كان في الخارج، اميركا لا يقودها الى الحرب رجل واحد بل برلمان من مجلسين، اميركا لا يضع سياستها الخارجية رجل لا يجيد سوى الاملاء، بل ادارة ومؤسسات ومجالس، وهذا بالضبط ما يجب ان تعيد اميركا النظر فيه: الرجال الذين يضعون سياساتها. واعود هنا (اف، أما كفاك؟) الى ما كتبته غداة انتخابات الرئاسة: لقد قسم الاميركيون اصواتهم بين ال غور وجورج بوش ولم يحصل رالف نادر على 2% من الاصوات، مع انه الرجل الذي أدى للمجتمع الاميركي من الخدمات، أكثر مما أدته عائلتا بوش وغور السياسيتان طوال نصف قرن.

المطلوب لحظة تأمل من أجل الجميع.