سنوات في مصر 29 و30: من القاهرة.. إلى الصين

TT

كنت اعلم ان الملاعب الحقيقية لأخطر قضايا العالم ليست موجودة في اوروبا، ولا في الشرق الأوسط، ولا في افريقيا، بل هي موجودة ـ مع كل اهوالها ـ في قارة آسيا، وبالتحديد في الصين، وافغانستان، وايران، وجاراتها. وقد تأكد امامي هذا الرأي عندما زرت بنغلادش سنة 1965. وبدت الصورة واضحة امامي عندما زرت ايران في اواسط الخمسينات. وازدادت الصورة وضوحا عند زيارتي للحدود الشمالية لباكستان، المتاخمة لأفغانستان، والتي تمر بمدينة بيشاور، الغارقة وسط الحدائق والبساتين، والمطلة على ممر خيبر، التاريخي، الاسطوري، الشهير! لقد تجلى الدين الاسلامي، بأجمل صوره ومساجده، كما تجلى امامي بكل معانيه، في كل مدينة باكستانية، وفي كل بلد آسيوي مسلم، من إيران الى الصين.

*** عندما جاء سفير الصين الشعبية لزيارتي في المكتب بدار «الجمهورية» لم يتردد في الاعراب عن شكواه من موقف رجال الصحافة المصرية الذين قال انهم «لا يحبون الصين الشعبية ولا هم يهضمون حياة الشيوعية، ولا يشاركون الرئيس عبد الناصر في تقديره للزعيم ماو ولوزير خارجيته شو إن لاي..!»، وان احدا من كبار الصحفيين في مصر لم يفكر في زيارة بكين! وعندما قلت له ان المشكلة في هذه الحالة لا تقع على رأس الصحافة المصرية وحدها، وانما يشاركها في ذلك الجانب الصيني الذي لم يفكر في توجيه الدعوات الرسمية الى كبار الصحفيين لزيارة الصين، اجابني بكل صراحة، وبكل ادب شديد: ولكننا دعونا اكثر من عشرين كاتبا وصحفيا ولم يلب الدعوة منهم احد!! قلت: وما هو المطلوب مني في مثل هذه الحال؟! قال: ان تقبل مني دعوة الخارجية الصينية لزيارة الصين! قلت بلا تردد: انا حاضر! حزمت حقائبي وسافرت الى بيروت، ومنها اخذت مقعدين على الطائرة الباكستانية المسافرة الى كراتشي.. ومنها الى هونج كونج للدخول الى الصين! وقال عني الزملاء الاعزاء انني أُصبت فجأة باختلال في العقل جعلني اهجر القاهرة والصخب، والعائلة، وهناء العيش، واسافر الى الصين لكي انام فيها مع الخنازير في غرف مقفلة وسط «الكوميونات» الشيوعية الفقيرة.. والحقيرة! ولم اكترث لأصوات المعارضة من زملائي الصحفيين.

ودخلت الصين من بوابة «هونج كونج» وركبت القطار الذي حملني الى مدينة «كانتون» ثم الى الطائرة الصغيرة ذات المحرك الواحد، لكي تنقلني وسط الاعاصير من «كانتون» الى العاصمة البعيدة وسط الزوابع الثلجية العنيفة التي تبشر الراكب بقرب انتقاله من هذه الدنيا الى الدنيا الآخرة.. والباقية.

وكانت غرفتي في الفندق الكبير تحمل رقم 614 من الدور 19 من الجناح حرف R من القسم الشمالي. وكنت طيلة عمري اشعر بالضعف الشديد في حفظ الارقام والحروف. وقد اعتدت في زياراتي للعواصم الاوروبية ان اختار في الفنادق الكبرى ارقام الغرف التي يصعب على الذاكرة نسيانها. ففي فندق الدورشستر اللندني كنت اختار الجناح رقم 123، وفي «جنيف» كان رقم ABC هو رقمي المفضل! وفي باريس كان جناحي في فندق جورج الخامس، يحمل اسم الرسام العالمي «بيكاسو»، الذي يصعب نسيانه. وعندما وقع القدر واصبح نصيبي ان أحمل هذه الكمية العجيبة من الحروف والارقام خلال وجودي في فندق «بكين الكبير» اصابني شيء من التشاؤم وتنبأت فورا بأن الموقف لن يكون سهلا ولن يمر كله على خير!!.

وعلى الفور، كتبت تلك الارقام على ورقة صغيرة، وحملتها في جيبي داخل جواز السفر. وعندما طلبوا مني جواز سفري للاحتفاظ به عندهم اخذوا الجواز، واخذوا معه الورقة! وعدت في اواخر الليل الى غرفتي وقد نسيت كل الطرق التي قد توصلني اليها! ولفظت امامهم اسمي، ولكنهم شعروا بالصعوبة في حفظه، او تذكره، او تكرار اعادته! وراحوا يجزئون الاسم وكأنه نوتة موسيقية او بيت من الشعر الصيني! نون.. شين.. الف.. شين!.

ويعيد موظف الاستقبال: نون.. الف.. شين.. واحاول ان اصحح ترتيب الحروف. ولكن الموظف الصيني الذكي يرفض ان يحفظها كما يجب..!.

وطلبت منه ان يوفر لي غرفة نوم مؤقتة بانتظار طلوع الصباح. ولكنه ضحك وهو يؤكد لي ان مثل هذا الاجراء المفاجئ يحتاج الى موافقة مدير الامن الداخلي، الذي يحتاج الى موافقة المدير العام، ثم موافقة وزير الداخلية، الذي لا يقرر الا بموافقة لجنة الامن الموسعة، التي لا تجتمع الا في حالات الحرب مع الهند، او في الصراع المسلح مع السوفييت، او عند الزحف الى جزيرة «تايوان» بقصد تحريرها من شاي كاي شيك! وتناولت اول كرسي امامي، وجلست عليه..

وعاد الموظف يسألني بكل براءة عن رقم غرفتي لكي يعطيني المفتاح المطلوب.. وعدت ارجوه ان يراجع من امامه سلسلة من الحروف والارقام والاقسام لعلي اتذكر.! وعندما اكد لي ان في الفندق خمسة آلاف غرفة، ومائة مطعم وخمسين مصعدا كهربائيا، ادركت مدى سخافة طلبي..!.

وفجأة، رأيت نورا كهربائيا في شكل نقط صغيرة تضيء في وسط اللوح الخشبي الذي يحمل الف مفتاح والف رقم! ورفع الموظف سماعة التليفون وسمعته يلفظ اسمي.. وصرخت على الفور: نعم! انا هو! انا هنا! انا فلان!! وابلغني الموظف الصيني بأن السيدة «لي» رسولة السلطات «المختصة» لمرافقتي في الرحلة قد وصلت الى الفندق.. وانها تريد مقابلتي فورا! وهكذا، انقذتني الآنسة او السيدة «لي» من اول ورطة عندما دلت الموظف على اسمي الصحيح، وعلى رقم غرفتي، وعلى بعض المعلومات المهمة ـ عند حكام ذلك البلد ـ عن عائلتي، وعملي، ومقالاتي الصحفية، وموقفي من «الدالاي لاما»، والتبت، وصراع الهند مع باكستان حول قضية كشمير وكل ما له علاقة بالصين، والعرب، ومصر، وفلسطين!!.

ورافقتني السيدة «لي» الى غرفتي.. وراحت تقرأ على مسمعي تفاصيل برنامج يوم الغد.. في بكين، وكانت السيدة «لي» نسخة طبق الاصل من ملايين الفتيات او السيدات من نساء الصين: ربطة العنق، وربطة الرأس، وربطة الحذاء، والجاكيت الازرق والبنطلون المهلهل والقميص وغطاء الرأس، كلها طبعة موحدة لكل امرأة صينية من بين نصف المليار امرأة..!!.

وعلى الفور، اشعرتني السيدة «لي» ان الضيافة الصينية معناها الالتزام التام بتعليمات المضيف، بحيث يتوجب على الزائر او الضيف ان لا يقوم بأية زيارة «خارج البرنامج» المعد لأية جهة كانت، او يقابل اي شخص اجنبي، او يتأخر عن الوصول الى اي مكان متفق عليه، او يتكاسل او يتمارض او يعتذر عن تنفيذ اي بند من بنود البرنامج المعد!.

كما اشعرتني «لي» ان بعض سفارات الدول الاوروبية، كسفارة الاتحاد السوفييتي، تبقى اماكن غير مرغوب في زيارتها..!.

كما قالت بالفم المليان ان حياة بكين لا تتحمل سهر الليل، او مرافقة الغواني، او اللهو الدنس، او السكر، او ارتياد الاماكن المشبوهة.

وختمت «لي» محاضرتها بالقول ان في الفندق وعلى باب غرفتي بالذات يوجد رجل بوليس واحد للحفاظ على الامن، ورجل واحد يمسح الاحذية، وخادم واحد يأتي عندما يرن جرس التليفون في غرفته. وفي ما عدا ذلك، ممنوع على الزائر ان يشغل الخدم، او يخرج الى الممرات، او يزعج الجيران! ولم تنس «لي» ان تواجهني بالسؤال التقليدي الذي رنّ في اذني اكثر من ألف مرة: هل اعجبتك الصين؟

وبعد هذه المحاضرة حرصت السيدة «لي» ان تقول لي بأن في الصين نهضة طبية هائلة، وان الجراح الصيني قادر على ان يعيد الاصبع المقطوع الى كف الانسان، وان مستوى المستشفيات في بكين لا يقل عنها في نيويورك.. وان عملية توليد «البقر» في المراكز الزراعية تتم بأحدث الطرق والآلات الكهربائية!.

وعادت وسألتني: هل اعجبتك الصين! قلت: جدا! جدا!.

قالت: نحن شعب مسالم لا نكره الا امريكا، ولا نحب ان نسمع الغناء الفاجر من افواه مطربي نيويورك من امثال فرانك سناترا.. وامثاله! هؤلاء مجرد سماسرة للدعارة والفحش، ونحن نكره اليهود لأنهم امتصوا خيرات بلدنا واحتلوا اكبر المباني في بكين وشنغهاي لمنفعتهم، لكننا نحترم جميع الاديان، وفي الصين يوجد اكثر من ستين مليون مسلم نسمح لخمسين منهم في زيارة الحج في كل عام..! قلت مقاطعا: هل استطيع ان ازور مفتي المسلمين والتقي بأهلي في العقيدة؟

قالت: ان «الطائفة» المسلمة تعيش في منطقة بعيدة ومعزولة عن العالم لأن مدنهم تخضع لتجارب في تحطيم الذرة.. ولا اعتقد ان الزيارة مسموحة في الوقت الحاضر.. خاصة للصحفيين!!.

قلت: وكيف لي إذن ان اطلع على احوال المسلمين؟

قالت: غدا يحضر «المفتي» لزيارتك هنا.. في بكين! وكل هذا، ولم استطع ان اتبين ملامح وجه السيدة «لي» التي كانت تغطي انفها وفمها بستار من الشاش الابيض بسبب تفشي ميكروب الزكام في اول فصل الشتاء! وخرجت مرافقتي «لي» عند منتصف الليل لكي تعود لزيارتي، في اليوم التالي مع ساعات الفجر..! فسألتها: لماذا تبدأ الزيارات قبل طلوع الشمس في بلادكم؟

واجابت: لأن الصين بلد كبير، وعلينا ان نقوم بتنفيذ كل الرحلات والزيارات المكتوبة في البرنامج.. ضمن ايام قليلة! قلت: واذا لم نقدر على تنفيذ كل البرنامج؟! قالت: عند ذلك اخسر انا.. وظيفتي! ولكي لا تخسر السيدة «لي» وظيفتها، ركبنا السيارة وانطلقنا من الفندق الى مطار «بكين»، حيث اخذنا طائرة صغيرة حملتنا الى.. شنغهاي! وقالت السيدة «لي» ونحن نعبر حدود مدينة شنغهاي انها قد اعدت للزيارة برنامجا خاصا يتيح لي ان اقضي ليلة «نوم» في احد «الكوميونات» الشيوعية الذي يحمل اسم «كوريا الشمالية». ودخلنا «شنغهاي» حيث العمارات الضخمة المطلة على البحر، ثم قالت على الفور: بعد دقائق سنصل «مزرعة كوريا الشمالية»، وسترى امامك ما ليس في الحسبان! وما ان وصلنا الى المزرعة، قدمتني «لي» فورا الى «الرفيقة» المسؤولة عن اعمال الكوميون ثم ودعتني قائلة: غدا سأحضر لمرافقتك في بقية البرنامج!.

وخرجت «لي» وتركتني مع الرفيقة «سو»، التي حملت على كتفها فراشا وثيرا وألقت به الى وسط الغرفة، قائلة: هذا هو سريرك للنوم! وسألتها: ومتى تكون ساعة النوم عندكم؟

اجابت: عندما يعود الضيف الآخر من الخارج، لئلا نزعجه! وعندما سألت عن اسم الضيف وجنسيته، اجابت: انه لا يحمل اسما معينا. ولكنه من اغلى انواع «الخنازير» البرية في هذه البلاد! قلت بفزع: وهل سينام هذا الخنزير معي في هذه الغرفة؟

اجابت مطمئنة: بكل تأكيد.! ثم اضافت: واذا لم ينم هنا.. اين تريده ان ينام!؟

وشعرت بالمزيد من الفزع.. والقلق! فانا لم اعتد ان اشارك احدا غرفة او سريرا، فكيف انام اليوم.. ومعي في الغرفة خنزير بري من الصين؟! كانت النتيجة انني لم أنم ولا الخنزير نام!

*** طلع الفجر من وراء كوخ خشبي مُصفّح بطبقات من الصفيح الاسود اللون المقطع، وسمعت صوت المضيفة وهي تعد لي فنجان شاي مع قطعة «خبز»، وتهز امامي برأسها علامة «تحية الصباح» ثم تتجه صوب الخنزير الضيف، او الضيف الخنزير وتشده من رقبته وتخرج به الى الهواء الطلق! وفجأة، ظهرت امامنا مرافقتي السيدة «لي». كنت اتفحص وجه رفيقتي «لي» واسأل نفسي: ترى، متى يصحو هذا المارد الاصفر من سباته لكي يواكب سير الحضارة في العالم؟ وهل يكفي الشعور الوطني المتدفق حماسة واشتعالا، عند عامة شعب الصين لكي يمنح هذا البلد الرفعة والرقي، بل النمو الذي يصبو اليه، والذي يستحقه؟! لقد اتعبتني زيارة الصين كما اتعبت اهلها. وكل من قابلته في الصين، شكا لي من امريكا ومن اليهود! وكل من التقيت به في الصين تدفق في التهجم على شاي كاي شيك ونعته بالعمالة للاستعمار! ولا يستطيع المرء الا ان يشعر بروح التعصب والغرور مع التعالي لدى كل صيني مسؤول في غمرة الحديث عن قضايا الصين وخلافاتها مع جيرانها، اليابان، والسوفييت، والهند.. وغيرها! وعندما مرت السنون، وحاولت الصين ان تتناسى نار العداء او الغيرة من الجيران، وان تمعن في تقليد كل ما تصنعه وتنتجه اليابان من اجهزة او ساعات او ملبوسات، اذ بالمنتوج الصيني الذي يحمل نفس الاسماء التجارية المصنوعة في اليابان، لكنه كان يقل جودة ويقل اتقانا عن الاشياء الأخرى المصنوعة في اليابان والتي بقيت ترتفع في اسعارها الباهظة وتمتاز في جودتها واعتماد الفرد عليها! وما زالت الدراجة هي اهم وسائل التنقل في هذا البلد!. ولعلهم ارادوا تقليد امريكا او اوروبا في الانفتاح على الحضارة والرفاهية فانشأوا مئات من دور الترفيه والسينما والسهر، ولكنها بدلا من ان تحافظ على «نوعية» الهدف من وراء ظهورها، اذ بها تتحول الى كباريهات رخيصة، ومنها الى دور للدعارة السرية، والعلنية!.

وعندما زرت الصين كان اكثر من ثمانين في المائة من الشعب الصيني ما زال يرزح تحت خيمة الجهل، والامية! هذا بلد حطمته الحروب ـ الاهلية والخارجية ـ وقاسى اهوال الحكم العسكري الياباني لمدة زادت عن سبع سنوات! هذا بلد، تنحصر مسؤولية الطبيب او تتسع فيه لكي تشمل العناية بأكثر من 25 الف مواطن، فمنطقة «سينكيان» التي تبلغ مساحتها ضعفي مساحة «فرنسا»، ليس فيها سوى 15 طبيبا! ومع كل ذلك، لقد شعرت بكل انغام الغرور والتبجح وانا استمع الى كل مسؤول في الصين عندما يحدثني عن مشاريع التعليم، ومشاريع الصحة، ومشاريع البناء، ومشاريع التصنيع، والف مشروع ومشروع في السنوات القادمة! ولم اوافقهم على الاستمرار في التغني بحياة الاحلام والتمنيات. قضيت في الصين ثلاثة اشهر كاملة، عدت بعدها الى بلدي عن طريق القطار الحديدي الذي يقطع ثلوج سيبيريا من حدود الصين الى موسكو.. ومعي مادة صحفية تكفي لظهور كتاب خاص يحمل عنوان: «عربي في الصين»! وبالفعل ظهر هذا الكتاب عن دار القلم في القاهرة. وقال عنه فاروق الهجرسي انه «مؤلف عظيم الأثر». وقال عنه رئيس تحرير «الاهرام» الاسبق، الصديق والزميل الراحل علي حمدي الجمال في عرضه للكتاب يوم الثالث من الشهر الخامس من عام 1965 «ان اسلوب الكتاب الرشيق مليء بالنبض والفهم والتحرر، والعمل والحياة، وانه.. يحتوي على معلومات غزيرة عن الصين حاضرها ومستقبلها.. وقد بدأت في قراءة الكتاب ولم اتركه حتى جئت على آخر سطر فيه»..!. اما الزميل الصحفي الذي لا يعجبه العجب، واعني به، صديقي انيس منصور فقد قرأ الكتاب وكتب قائلا: «... وقد تناول المؤلف بروحه المرحة وعباراته السريعة الذكية كل جوانب الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية في الصين» ثم قال: «... الكتاب متعة مؤكدة تمتاز بالاحاطة». اما الزميلة سناء فتح الله فقد نشرت مقالا في مجلة «آخر ساعة» بتاريخ 12 / 5 / 65 قالت فيه: «... وفي الكتاب اكثر من لمسة انسانية.. واكثر من حديث ممتع.. وخط منهجي يضم كل الاخبار والمعلومات التي يريد ان يقولها عن الصين من خلال رحلته اليها مع كلمات مأثورة لزعماء الصين»..! ترى ماذا كان رأي صديقي السابق «سفير الصين الشعبية» في القاهرة، الذي كان رسول الدعوة لي لزيارة بلده؟

واجيب: لم اعد اراه، لقد نقلوه من القاهرة الى مكان آخر!

***

* حلقة 30: ليالي الأنس .. في بغداد!

* كان الممثل المصري الشهير يوسف «بيه» وهبي، يعتقد انه مسؤول عن انقاذ فن المسرح وفن التمثيل! تماماً، كما كان نزار قباني يظن انه مكلف بانقاذ فن الشعر العربي في القرن العشرين! وكان الاديب الكبير زكي مبارك ـ أو الدكاترة زكي مبارك ـ يعتقد في قرارة نفسه بأنه لولا ما ناله من دراسة وما اعطاه من ابحاث، لما كان هناك ادب ولا «نثر» ولا كانت هناك.. «ليلى المريضة في العراق!».

وكان الصحافي محمد حسنين هيكل، وما زال يتغزل بدوره الكبير في عالم الصحافة المصرية، لأنه ـ كما يقول ـ حاول ان يجعل من جريدة «الاهرام» ملتقى لافكار كثيرة كانت متعارضة، حسب مفهومه للامور! والواقع ان طبيعة الاجواء الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي عاش فيها هؤلاء الناس، لم تمنعهم، بل لعلها شجعتهم على تجاهل معظم القضايا العالقة، او المعلقة، والمتسلطة على رؤوس المجتمع، ومشت بهم نحو الشعور المتزايد بالنرجسية الذاتية، والانطلاق الواسع صوب التمتع بمغريات الحياة.. وملذاتها ايضا! وعندما عاش الاديب المصري «البوهيمي» ـ الدكتور زكي مبارك في العراق، استطاع ان يكتب مؤلفات ضخمة وهو يتغزل في ليلى المريضة في العراق.. ولم تكن هناك ليلى، ولا ما يحزنون! كان زكي مبارك، وحده هو العاشق المتيم الذي وقع في حب بغداد، وراح يتغنى بليالي بغداد، ونساء بغداد، وشباب بغداد، وعائلات بغداد، وشعر بغداد، وصحف بغداد... وصبايا بغداد! وكنت أنا شخصيا، احد القراء الذين تأثروا بما كان يكتبه الدكتور زكي مبارك عن بغداد، فارسلت اليه رسالة ادبية كان عنوانها «ملك الروح والفؤاد يا زكي مبارك»..! وقد احتفل بها هذا الاديب الكبير وعمد الى نشرها ثم ضمها في صفحات كتابه الذي جعل عنوانه «ليلى المريضة في العراق»! ولا شك ان معظم رجالات العراق، كبارا وشبابا وصغارا قد احبوا «الحب» وعرفوا العشق وتعذبوا بالهجر والدلال!

*** وحدثني السياسي والاديب العراقي الكبير، ابو خلدون ساطع الحصري، عن جوانب كثيرة من حياة زعماء المجتمع والسياسة في العراق. وقد عمد عبد الرحمن عزام باشا أول امين للجامعة العربية، إلى الاتصال بأبي خلدون في عام 1949 لكي يعرض عليه مديرية القسم الثقافي في الجامعة العربية.وقد رفض ابو خلدون ذلك العرض واختار بدلا عنه ان يكون مستشاراً.. وبقي مستشاراً! وكتب «حوليات الثقافة» واحصائيات المدارس، وأنشأ معهد الدراسات العربية العليا التي تخصصت في معالجة القضايا المعاصرة، كما انشأ المتحف الثقافي وعلق في غرفه خرائط بيانية وقصص العرب السياسية، وايام تحالفهم، وسنوات صراعهم.. واختلافهم! وراح ابو خلدون يتنقل بين القاهرة وسويسرا، وجمع آلاف الوثائق والاوراق السياسية.. وفي ذات يوم كانت كريمته سلوى الحصري مقيمة في منزلها ببغداد عندما دق جرس التلفون واذا بصوت الصحافي محمد حسنين هيكل يسألها من مكتبه في القاهرة عن عنوان ابيها وعن اخباره، وقال لها: انتم اخذتم منا هذا الرجل ساطع الحصري.. ليه؟

ثم اضاف هيكل يقول لسلوى الحصري: استأجرنا شقة على النيل «للوالد» سيكون سعيدا بأن يعيش فيها! وطلب هيكل من سلوى ان ترسل له اوراق والدها لأن الرئيس عبد الناصر يريد ان يطلع عليها.. واضاف هيكل يقول لسلوى الحصري: الوالد يا سلوى مدرسة كبرى...

وسافر ابو خلدون الى القاهرة، ولكنه رفض ان يعيش في الشقة الجديدة التي اعدها له عبد الناصر، واختار بدلا منها غرفة متوسطة الحال في «بنسيون» مصري متواضع في شارع الانتخانة بالقاهرة. وفي ذلك البنسيون، استقبل ساطع الحصري الرئيس المصري عبد الناصر الذي جاء يزوره. كما اعتاد ان يستقبل كبار رجالات مصر والعراق من امثال طه الهاشمي، وعبد العزيز المصري، وفؤاد باشا اباظة، وحمد الباسل وفؤاد جلال، وغيرهم. وعندما اتاحت له الظروف وضع كتاب جديد عن الاقليمية العربية هاجم فيه انفصال سوريا عن مصر.. قال بالحرف الواحد «.. اما عن وجهة نظر مصر في هذا الانفصال المعيب فاني اتركه لخطاب الرئيس عبد الناصر حول هذا الموضوع»! وكان سرور عبد الناصر بهذا الكلام بلا حدود..

واقيمت حفلة تأبين، بمناسبة مرور الاربعين على وفاة ساطع الحصري، في مركز الاتحاد الاشتراكي بالقاهرة. وجاءت سلوى الحصري من بغداد، لكي تشهد مهرجان ابيها. وكانت ترافقها الوزيرة حكمت ابو زيد.. وعندما احس بوجودها الرئيس، ترك مقعده وذهب اليها وتحدث معها عن كتاب «الاقليمية» لساطع الحصري. وقالت له سلوى «عندما وقع الانفصال سمعت والدي يقول لي: «يا ريتني كنت اليوم في عداد الاموات ولا ارى ولا احس ولا اتألم.»! وقد توفي «ابو القومية العربية» في عام 1968 ودفن في بغداد.

*** وما اكثر الاسرار، والفضائح في حياة بغداد.! وكان المجتمع اليهودي العراقي، ينتظر انتشار تلك الفضائح بين الناس، لكي يجري استغلالها.. وما زالت الأغاني العراقية ـ قديمة أو حديثة ـ هي السلوى الاولى ليهود العراق الذين جاءوا الى اسرائيل. وما زالت برامج الاغاني العراقية ـ قديمة أو حديثة ـ تملأ برامج اذاعة اسرائيل حتى هذا اليوم.! لقد كانت ليالي بغداد في العصر العباسي، اسطورة الانس والخيال، كما كانت هذه الليالي في الاربعينات والخمسينات اسطورة الحب والسهر والشعر والغناء.. وما زلت اقول: سلام على شارع الرشيد، وعلى دجلة، وعلى «الامباسي»، وعلى نادي المنصور، وعلى شارع المتنبي، وعلى جميلات بغداد!

*** وبعد...

الى هنا، اكتفي بالحديث عن ليالي الأنس في بغداد، أمْ المدن واحلاها. وكذلك اكتفي بالحديث عن «سنواتي في مصر» زعيمة العرب ورائدة العروبة.

وليس كل ما سبق وكتبت هو «كل ما عرفت او اختبرت»! لقد تبرع بعض الزملاء الأعزاء من حضرات «الزملاء المحترمين» فشهروا سيوفهم مع أقلامهم للتهجم والتجريح، وأنا مدين لهم، مثلما أنا مدين لمن اغدق علي المديح واغرقني بعبارات الشكر والتقدير. ويبقى القول ان هذه الحلقات ستصدر قريبا، إن شاء الله، في كتاب كامل بالصور والوثائق.

حفظ الله مصر وأعاد للعرب والمسلمين قدسهم الضائعة كي يعود للاسلام عَلمه ومنبره وحاضره ومستقبله.

* انتهت الحلقات