ما اغرب هذا العالم! صبي يخرج من بين جبال معتمة، من قوم لا معين لهم سوى عتمة الكهوف، يختصر الدنيا بخطوة واحدة، ويرأس اعلى هيئة عالمية! والله كان يحسن حمل البندقية اكثر من القلم، الصبي عصمت لم يكن ابن ذوات، بل ابن ثائر كردي وحسب! ويلمس الطفل عصمت قساوة الحياة الجبلية، وظروف الثورة الكردية، فكان المقاتلون الكرد ومعهم والده يتسللون في الليل الى قصبة العمادية ليحصلوا على المؤن، ويعرفوا المواقع الحكومية ليغيروا عليها ويعودوا الى معاقلهم المنيعة في الاطراف! والعمادية، حيث ولد عصمت عام 1927، قصبة منسية تقع ضمن المثلث الحدودي بين العراق وايران وتركيا على بعد ثمانين كيلومترا من مركز محافظة دهوك.
كان الحاج طه عبد اللطيف احد مقاتلي الملا مصطفى البارزاني، شارك في ثورة بارزان الثانية، وابتلعه سجن الموصل لسبع سنوات بعد ان تم اعتقاله عام 1945. ومن السجن يطلب من ابنه ليعيش مع عمه علي عبد العزيز الذي كان ضابطا في الجيش العراقي برتبة عقيد.
من اقصى الشمال، حيث قعقعة السلاح واناشيد رجال المقاومة الكرد ينتقل عصمت الى مدن الجنوب. وفي مدينة الديوانية يبدأ بدراسة المرحلة الثانوية ويكون الاول على اقرانه في كل عام، ويتوج الاول على العراق في امتحانات البكالوريا للمرحلة النهائية ليحصل على بعثة دراسية في الولايات المتحدة الامريكية عام 1947. ويدخل جامعة كنوكس في ولاية كاليفورنيا ليحصل على شهادتين مرة واحدة، احداهما في اللغة الانجليزية والثانية في العلاقات الدولية! وعند عودته الى العراق عام 1951 يصبح مدرسا للغة الانجليزية في مدينة اربيل الكردية. ولكن طموح عصمت لم يقف عند هذا الحد، ويبدو ان والده كان يعرف وزير الداخلية الكردي المرحوم سعيد قزاز منذ ان كان متصرفا للواء الموصل، وكان قزاز رجلا شجاعا ومعتدا بنفسه، ويتعاطف مع الذين قاموا بثورة بارزان الثانية. فطلب والده من سعيد قزاز التوسط لعصمت لدى الخارجية العراقية لتعيينه ديبلوماسيا في وزارة الخارجية. ولكن سعيد قزاز الذي اشتهر باتباع الطرق القانونية نصح عصمت ان يؤدي الامتحان الخاص بالوزارة وفي حال اجتيازه يكون مؤهلا للعمل في السلك الديبلوماسي. وبالفعل ادى عصمت الامتحان وكان من الاوائل، ولم يحتج بعد ذلك الا لمباركة قزاز الذي ادى خدمته دون القفز على القوانين المرعية. وتم تعيين عصمت كملحق ديبلوماسي في ديوان الوزارة، ومن ثم انتقل الى فضاء العلاقات الديبلوماسية خارج حدود العراق بعد تعيينه في القاهرة بدرجة سكرتير ثالث في السفارة العراقية، والى جنيف بعد ذلك في البعثة العراقية بدرجة سكرتير ثان. وفي عام 1958 تم انتدابه للامم المتحدة، وبقي هنالك لمدة خمسة وعشرين عاما، شغل خلالها عدة مناصب منها امين عام مساعد للأمم المتحدة.
وهنا تعرقل الحكومة العراقية تقدمه بسبب كرديته، وخشيتها من علاقاته الواسعة وتعاطفه مع القضية الكردية، خصوصا ان القتال كان محتدما بين النظام العراقي الحالي والحركة الكردية بقيادة المرحوم مصطفى البارزاني.
لذلك انهيت خدماته في الامم المتحدة واعيد الى ديوان وزارة الخارجية بدرجة سفير! وفي عام 1981 ترأس الوفد العراقي الى الامم المتحدة، وتم انتخابه من قبل اغلبية دول العالم ليصبح رئيسا للجمعية العامة للامم المتحدة! يقول السيد عصمت عكيد وهو ديبلوماسي عمل مديرا لمكتب كتاني لمدة سنتين انه كان «سلسا في العمل، مثابرا سهلا متفائلا على الدوام، ومن كان يعاشره يحس بلذة العمل معه. يطالع الصحف يوميا، ويسمع اخبار BBC كل صباح، انسان اجتماعي لطيف المعشر، بسيط ومتواضع، وكان نزيها عصاميا في حياته، لا يعقد الامور قط ولا تقف امامه معضلة الا ويحلها بصبره وثقافته الواسعة..».
وبعد ان احيل على التقاعد في الخارجية العراقية في نهاية الثمانينات، عاد الى الولايات المتحدة وتم تعيينه من جديد في المنظمة الدولية ليتولى عدة ملفات لقضايا دولية مهمة. واخيرا استقر في سويسرا الى ان وافاه الاجل. وبناء على وصيته دفن في مسقط رأسه في مدينة العمادية التي بدأ منها خطوته الاولى.
وبعد وفاته نعاه الكثيرون من زملائه ومنهم كوفي عنان والاخضر الابراهيمي الذي قال «عصمت من الديبلوماسيين العرب الذين افتخر بهم!». اما عميد السلك الديبلوماسي العربي في الامم المتحدة السفير عبد الله الاشطل فقد قال ان كتاني «ألمع ديبلوماسي عربي عرفته الامم المتحدة!».
ونحن الكرد كنا نتمنى لو يتوخى السيدان الابراهيمي والاشطل جانب الحقيقة ولا «يصححان!» قومية كتاني وهو لم يدفن بعد!
* كاتب وصحافي كردي