«الدولة المستقلة»: الخط المستقيم بين أفغانستان وفلسطين

TT

يقول مقام شرق اوسطي رفيع انه سمع من مقام ديني يهودي متنور على هامش اجتماعات الامم المتحدة الخاصة بحوار الحضارات والثقافات، انه لا بد من قيام دولة فلسطينية، ليس فقط لاعتبارات سياسية باتت ملحة عالميا وشرق اوسطيا، بل ايضا لاعتبارات يهودية باتت هي الاخرى اكثر الحاحا من اي وقت مضى، وذلك ضمانا لأمن يهود العالم بعد ان ثبت بالدليل الساطع والبرهان الناصع أن الامن والامان في دنيا العولمة التي نعيشها إما ان يكون للجميع او لا يكون لاحد.

يضيف صاحب المقام الشرق اوسطي بدوره بأن احداث 11 سبتمبر المروعة اثبتت هي الاخرى بما لا يدع مجالا للشك والترديد أن لا طرف ولا قوة ولا دولة في العالم يمكن ان تبقى بمنأى عن تداعيات الارهاب لا بسبب اكتفائها الذاتي ولا بسبب بعدها الجغرافي ولا بسبب قوتها او هيمنتها، ولا لأي سبب آخر، خاصة منذ ان اخذ العالم يتحدث باجماع عن القرية الكونية المصغرة، وهو يصف هيئة التعامل العضوي اللصيق بين البشر بعد انجازات ثورة التكنولوجيا والاتصالات والمعلومات.

في تعليق «خبيث» لاحد الفلسطينيين المخضرمين بين الفدائية والدبلوماسية على كلام كولن باول (وزير خارجية أمريكا) الاخير قال: هل نحن بحاجة الى 11 سبتمبر جديد حتى يكمل كولن باول المشوار بكامله ويعطينا حقنا الكامل في دولة فلسطينية كاملة السيادة؟! ام ان علينا ان ننتظر خمسين عاما اخرى من العذاب والمعاناة وسلسلة متجددة من الانتفاضات؟! لا احد يريد الربط بين حوادث افغانستان وحوادث فلسطين وحوادث امريكا بشكل قسري او تعسفي او تسطيحي، لكن حكاية القرية الكونية الصغيرة تفرض نفسها يوميا من خلال ترابط التداعيات المشهودة.

في تعليق على مجريات حصار الطالبان في قندوز (شمال افغانستان) قال احد السفراء العرب إن المطلوب تصفية الافغان العرب وابادتهم عن بكرة ابيهم لما الحقوه بنا من اذى ومن تشويه لصورتنا واسمنا كعرب ومسلمين امام العالم، فرد عليه زميل له من دولة عربية اخرى عانت الامرين من المواجهات معهم او مع من هم من امثالهم: لا، بل ان المطلوب تسليمهم لنا بعد اسرهم لنقدمهم نحن في بلادنا للمحاكمة حتى ينالوا جزاءهم الذي يستحقونه لما فعلوه في بلادهم الاصلية قبل ان يفعلوا بأفغانستان ما فعلوه، فرد ثالث ينتمي الى دولة وديعة اعتادت النأي بسياساتها عن المحاور العربية والاقليمية: لا، بل ان المطلوب برأيي ادخالهم الى معسكرات تأهيل مدني تعيدهم الى حياة شعوبهم العادية، فما كان امامي الا ان اقف الى جانب الخيار الثالث لقناعتي التامة بعبثية الخيارين الاولين، مضيفا أن المطلوب ايضا وبرأيي المتواضع الدخول في حوارات جدية معهم اي مع هؤلاء الافغان العرب الذين تركوا الدنيا برفاهيتها وزخارفها متجهين الى كهوف افغانستان، لأن الحوار الجدي والمباشر معهم هو السبيل الوحيد للخروج من ازمة تداعيات الوقوف ضدهم او معهم على مجتمعاتنا، في حين ان التصفية الجسدية او حتى المحاكمات الامنية المعروفة هي اقصر الطرق لانهاء الازمة مـؤقتا مقابل فتح باب احتمال ظهور ازمات اخطر وتداعيات اكثر تفجرا.

وحده الحوار من باب الاقتناع بالحوار وفضيلة الاستماع للرأي الآخر مهما كان مختلفا او حتى متضادا مع وجهة نظرك، خاصة الحوار من باب القوة او لنقل ممارسة الحوار وانت قوي وقادر على تصفية خصمك هو الذي يأتي لك بأفضل النتائج واثمنها.

وهنا ثمة من يعتقد أن المجال لا يزال مفتوحا امام الامريكيين ليقدموا على خطوة اكثر جدية واكثر عملية في ازمة الشرق الاوسط وتحديدا بخصوص القضية الفلسطينية تتمثل بآلية واضحة وشفافة تفضي الى قيام الدولة الفلسطينية المستقلة بعاصمتها القدس الشريف قبل فوات الاوان اي قبل ان تضعف امريكا اكثر، او قبل ان يصيب اهلها لا سمح الله اكثر مما اصابهم فتصبح مضطرة للتنازل والحوار من باب الضعف والاستجداء.

وثمة من يضيف ايضا أن نوع التعامل مع الملف الافغاني بعد هزيمة طالبان العسكرية قد يكون هو الآخر محطة اختبار اخرى لميزان الحكمة التي يمكن ان تتحلى بها دولة عظمى او ميزان الغرور والعنجهية اللذين يتحكمان بها، حيث يمكن بواسطة الاولى ان تستولي على قلوب الملايين من سائر الامم الاخرى، في حين قد تخسر بواسطة الغرور والعنجهية قلوب الملايين من ابنائها هي فضلا عن ابناء الامم الاخرى.

في افغانستان كما في فلسطين، لن يدوم المُلك لأحد، لا لتحالف الشمال ولا لغيره من الفصائل الافغانية، ولا لسلطة الحكم الذاتي الفلسطيني ولا لغيرها من الفصائل المتعاونة او المتنافسة، حتى تستطيع ان تغطي على امريكا وتقصيرات امريكا او تضمن لامريكا او لغير امريكا نجاح خططها، فالشعوب هي الباقية، والشعوب تملك ذاكرة قوية وقوة تحمل للمعاناة تستمر قرونا، ولن تستطيع القوة العسكرية المحضة ايا يكن جبروتها وايا تكن قساوتها ان تفت من عضد الامم المؤمنة بحقوقها المشروعة.

ان تكون مع الزمن، تعاصره وتستلهم منه روح المبادرة لحل المشكلات المستعصية خير من ان تلهث وراءه متلمسا طريق الخلاص دون جدوى، ومنح الدولة الفلسطينية المستقلة اليوم، اليوم وليس غدا، وعن طيب خاطر لاصحاب الحق التاريخي في هذه الارض، افضل بكثير من انتظار فرص جديدة تظن انها قادمة في ظروف قد لا تأتي مطلقا واذا ما اتت قد لا تُبقي لاحد شيئا ولا تذر، وعندها لن ينفع الندم، لأن الوقت اصبح متأخرا بما فيه الكفاية، والذي يخشى الربط بين افغانستان وفلسطين يخسر اكثر، المهم ان نكتشف الخط المستقيم الواصل بينهما، ولا نتوه في ظلال الخطوط المنحرفة.