صوت من سلمية

TT

بعد خروجه من الإبرة يظن الخيط انه هو الذي ثقبها، وبعد مغادرتنا للأمكنة التي نحب نكتشف انها لم تغادرنا واننا ثقبنا بفراقها دون ان نبرحها، ولم يكن في الشعر الانساني كله أرشق من كافافيس، وهو يعبر في «اسكندرياته» عن ذلك المغزى العميق لأمكنة تتغلغل فيها أرواحنا وتأبى ـ وان غادرتها ـ ان تفارقها.

لقد كانت «سلمية» السورية في شعر محمد الماغوط قبل ثلاثين عاماً ونيف، آخر دمعة ذرفها الرومان على أسير فك قيوده باسنانه، وها هي تعود اليوم في شعر أسامة الماغوط على شكل قبيلة آسرة تظن انك خلعتها فتلبسك عباءة تحت الجلد وليس فوقه وهنا خطورتها.

ها أنت عار من كل قبيلتك ان أردت تدنو من الخيمة التي تريد معك رجولة ترفعها كسارية لكن حين تخرج سأراك تجتر قصة عن أبيك أو تبحث في الرمل عن صلاة الأم البعيدة ولم ينس الماغوط الصغير ان يستلف من الماغوط الكبير عبارته المضيئة في الحنين الى سلمية «انني راحل وقلبي راجع مع دخان القطار» وبهذه العبارة استدعى المقارنة بين سلميته، وسلمية محمد الماغوط وسلمية صاحب الناقة القرمطي الذي دمرها ليتخلص من حبها، وما استطاع الى الفكاك منها سبيلا، فسلمية واحة من العيون الخضر على كتف صحراء عطشى، ولا شيء يغري المخيلة مثل تجاور العطش والري وصراعهما قبل استسلام احدهما.

ومشكلة اسامة الماغوط في ديوانه الجديد «بوح الحكايا» في كثرة الاستشهادات العميقة ذات المدلولات الوجودية الرهيفة في الشعر والحياة، فهو يستعير لقصيدته «سطور في بقايا دفتر» عبارة ابن عربي:

«كل سفينة ريحها ليست منها فقيرة» وبعد عبارة بهذا الاختزال والتكثيف ماذا يستطيع أي شاعر ـ وان كان فحلاً ـ ان يقول أو يقرزم..؟

وفي قصيدة «حكاية الشهوة» يستعير من ابن عربي ايضاً قوله «كل شوق يسكن باللقاء لا يعول عليه».. أما من اليوت فيأخذ لقصيدة «حكاية الحكاية» عبارته التشريحية الموفقة:

«الكتابة تحويل الدم الى حبر».

وفي قصيدة اخرى يستلف عبارة ريلكة «اللغة مسكن الكائن» مع استشهادات وأقوال كثيرة اخرى خلقت له ضمناً مشكلة المقارنات، فمع أقوال من هذا النوع يرتفع سقف التوقع عند القارئ ولا تكون النتيجة لصالح الشاعر مهما كان مجيداً، واسامة الماغوط من الشباب المجيدين، والاحساس بقصائده وشاعريته سيكون أفضل لو لم يزرع على بواباته تلك المفاتيح التي صكتها القمم من أرباب صناعة الكتابة وأخدان القلم والألم، انه شاعر مميز ذاك الذي يقول:

يا شيئاً من الرمال وشيئاً من البحر احترت ما سأكون فتمددت شاطئا والذي يقول ايضاً:

كل ساعة تمر تحمل ستين دقيقة معها وتمضي الا ساعة حضورك تحمل ستين حكاية تبقيها وتمضين وفي الديوان الصادر عن دار الطليعة الجديدة بدمشق مفارق مشعة كثيرة تنبئ عن شاعر أدرك حكمة كيركهارد: «تعاش الحياة باتجاه الامام لكن لا تفهم الا بالعودة الى الوراء». ومن شأن فهم وجودي يستند الى كيركهارد وابن عربي ومحمد الماغوط ان ينتج شعراً مثقلاً بالبصمات الخاصة والبراعم المتفردة التي وان لم تزهر كاملة في هذا الديوان ـ ولعله الأول ـ فإن الأفق الفسيح ما يزال امامها لتتفتح على مهلها مالئة فضاء سلمية ودمشق بما يليق بتاريخهما الساحر من العبق والشذى.