لعبة الغمز.. ولعبة الحبس!

TT

ونحن صغار، كنا نمارس لعبة جميلة، تبدأ برسم خطوط على الأرض بالطباشير البيضاء، ثم نقوم بالقفز برجل واحدة عبر الحدود المرسومة، مع دفع حجر رخامي صغير بقدمنا، والفائزة من تتجاوز بحجرها الخطوط المرسومة، وتصمد حتى تصل الى نقطة النهاية. لا ادري لماذا اليوم عندما تخطر ببالي هذه اللعبة، أقارن بينها وبين ما يتخلل حياة الصحافي والكاتب من منزلقات! كلاهما مرغم على القفز فوق الخطوط المحظورة ليصل الى مراده، لكن الفرق بين الاثنتين أن اللعبة تظل لعبة في نهاية الأمر، لا توقع ضررا على صاحبها، بعكس الصحافة والكتابة التي يبقى صاحبها طوال الوقت تحت المجهر، وقد يتلقى في الظلام ضربة مباغتة مجهولة المصدر، أو صفعة من هنا وركلة من هناك، ليلتزم بالواقع المحتوم. مع هذا كثير من الصحافيين والكتاب يتمسكون بمهنتهم على الرغم من أنها مهنة خطرة، وبالكاد توفر لقمة العيش لصاحبها، الا اذا استثنينا فئة محدودة استطاعت تحقيق ثروة بالركض بين دهاليز الصحافة.

أكدت اللجنة الدولية لحماية الصحافيين أن هناك أكثر من 25 صحافيا قتلوا عام 2000م اثناء تغطيتهم لأحداث الحروب والمجازر والانقلابات في العالم، وفي حرب افغانستان الاخيرة تم الإعلان عن مقتل 3 صحافيين بينهم امرأة . قد يتساءل الكثيرون: لماذا يعرض الصحافي حياته للخطر؟! هل يعود ذلك الى رغبته في كشف الحقيقة أمام الناس؟! هل تنبع من صفتي المجازفة والمخاطرة، اللتين تعتبران من سمات الصحافي الحقيقي؟! هل هي السعي لتحقيق سبق صحافي، يمكنه من تسلق سلم المجد؟! هل تختلف اهداف الصحافي الغربي عن نظيره العربي؟! هل الرأي الذي نادى به يوما الكاتب أحمد بهاء الدين فيه جانب من الصواب، حين قال إن السجن الذي له جدران، خير من السجن غير الواضح بلا جدران؟! هل كان يقصد المعاناة التي يعانيها الصحافي والكاتب العربي ليوصل افكاره للناس، بعد ان تتم محاكمته محاكمة هزلية، ويزج به في السجن ليصبح عبرة لغيره؟! في عالمنا العربي يتربى الأفراد بطبيعة الحال داخل المجتمعات العربية على الازدواجية في التعامل، وهي عادة عربية ورثناها عن أسلافنا منذ قديم الزمان، وظلت عالقة في جدران عروبتنا، ويشبون على استخدام أسلوب التورية في احاديثهم، كونه من الأساليب البلاغية الجميلة التي تحتوي عليها لغتنا، وقد استعان بها العديد من الصحافيين والكتاب العرب للتعبير عما يدور في رؤوسهم، وحتى لا يقعوا في دائرة المساءلة! وما زال الصحافي والكاتب العربي يمارس يوميا لعبة القفز لتفادي الألغام الأرضية، والحواجز الشائكة، والزلازل المفاجئة، وملهيا في تعلم لغة الغمز واللمز، حتى يظل قادرا على الاستمرار والتنفس في أجواء ملوثة! وإلا حلت عليه اللعنة وسقط في سلسلة طويلة من الاستجوابات، التي قد تنتهي باتهامه بالخيانة العظمى، واذا لم يرتدع فهناك ألف وسيلة ووسيلة لإعادته لصوابه.

قرأت بالأمس واقعة غريبة على مجتمعاتنا العربية، وهي قيام أحد الكتاب الصحافيين في البحرين، برفع قضية على وزير الاعلام، لأنه أمر بإيقافه عن الكتابة، ومنعه من السفر. ولست هنا بصدد التعليق على قرار وزير الاعلام البحريني، وانما نظرت الى الحادثة على أنها بداية نشوء ظاهرة صحية جديدة في عالمنا العربي، من خلال فسح المجال أمام هذه الفئة، في اللجوء للقضاء، والمطالبة بحقوقها، كما حدث مؤخرا في قضيتي الأديبتين الكويتيتين ليلى العثمان، وعالية شعيب، واستعانتهما بالقضاء لتوضيح موقفهما الأدبي.

هل الصحافي والكاتب العربي، عمره الافتراضي قصير نتيجة الضغوطات النفسية والمعيشية التي يتعرض لها مقارنة بالغربي؟! الكاتب محمد حسنين هيكل يتحدث عن أحد اساطير الصحافة البريطانية «أندرو نايت» رئيس تحرير أشهر المجلات الاقتصادية في أوروبا، الذي اعتزل العمل الصحافي، واشترى بيتاً تحيط به مزرعة بالريف الانجليزي، ليقضي فيها ما تبقى من عمره مع زوجته الجديدة. يكرر هيكل عبارة أحد الفلاسفة «.. السعادة مثل الكرة نجري إليها، فإذا وصلنا ركلناها بأقدامنا الى البعيد، ثم عدنا نلهث وراءها حتى نلحقها ثم نركلها من جديد..»، مبديا دهشته واستغرابه من قرار هذا الرجل، متسائلا في حيرة: هل من الممكن ان نفارق اشياءنا الحميمة التي ربيناها في احضاننا الدافئة سنوات.. وسنوات؟! في رأيي الحياة لا تمطر العطايا جملة واحدة، والأيام تعلم الإنسان دوما لعبة المقايضة، وقد يكتشف صحافي أو كاتب ان الكتابة لم تكن حبه الحقيقي، وان كل النجاحات والانجازات التي حققها كانت مجرد تحديات حياتية وأحلام شبابية، لكنها لم تكن يوما دربه المنشود، وأن سعادته الحقيقية كانت تمرح طوال الوقت متخفية في اعماقه، حتى يكتشفها فجأة في خريف العمر. مع هذا أؤمن ان عالم الكتابة، عالم صاخب في حياة الصحافي والكاتب، بالرغم من طابع القلق الذي يلتصق بشخصية صاحبه، هذا القلم الذي يميد بصاحبه نحو هوة الهلاك حينا، ويرفعه الى أوج المجد حينا آخر، ومع هذا تظل الكتابة قدراً جميلاً ومخيفاً في نفس الوقت. في عالمنا العربي قد يقذف الصحافي والكاتب بقلمه من أعلى قمة شاهقة، اذا شعر بأن تحقيق المجتمع المثالي الذي يحلم به قد اضحى ضربا من المستحيل، أو يقرر التواري في الظلال يجتر احزانه حتى يبتلعه النسيان. أو يختار لغة الصمت المطبق ليضمن السلامة لحياته وأهله في عالمه العربي المضطرب، المهووس بلعبة الاستبداد، أو يتسرب الملل فجأة الى أعماقه، ويقرر رفع راية الاستسلام بعد أن تعب قلمه من التناحر، والصدامات المتكررة داخل أوطانه.

في النهاية دنيا الصحافة والكتابة تدور في محورين رئيسيين، لغة الغمز.. ولغة الحبس، وهما قدران احلاهما مر، وعلى الصحافي والكاتب أن يقرر أي الدربين يسلك، وأي الهدفين يختار.. المتاجرة بمبادئه، أم التضحية بالنفس من أجل ارسائها!