ليغير الغرب مناهجه.. فصناعة العنف في ثقافته

TT

يوازي او يحاذي بلاء الارهاب ـ في التعسف والفوضى ـ: ما ترتب عليه، او نجم عنه أو لازم حملة مكافحته من فتن جسيمة ومركبة: فتنة (الوصاية الفكرية).. وفتنة (تبني المفهوم الصهيوني للارهاب).. وفتنة (تغيير الانظمة)، اي انتهاز هذه الفرصة او الفوضى العالمية لتوليد وتثبيت (سوابق سياسية) تتمثل في تغيير الانظمة تحت شعار مكافحة الارهاب.

فتنة (الوصاية الفكرية) هل لدى قادة الغرب: خبراء امناء كبار يخلصون لهم المشورة والنصح وهم يتعاملون مع المسلمين: دينا.. وأمة .. وحضارة؟

لا نحسب ان هذا النوع من الخبراء متوافر، او مستدعى بجد، بدليل: ان تجارب تاريخية تتكرر دون الاستفادة منها كما تنبغي الاستفادة. لقد تسابق قادة الغرب الى التوكيد المتتابع بأن (الاسلام) بحسبانه دينا، وان (المسلمين) بحسبانهم أمة، ليسوا هدفا من اهداف الحملة الدولية ضد الارهاب. قال ذلك أكثر من رئيس ومسؤول غربي.. بيد أنه في مواقف فاصلة كهذه لا يغني القول عن (الفعل). بل ان تخلف الفعل عن القول يضطر الذهن الى استنتاج ان هناك (خداعا) سياسيا. واذا كان الخداع نقيصة على كل حال، فإنه في العلاقة بين الامم شر عام، وفتنة عمياء، وهدم منكر لبنيان الثقة. اننا لم ننخدع بـ (الشكل الديني) المتلبس بالاسلام ـ حقيقة ام ادعاء ـ وطفقنا ندين الارهاب، وإنْ تزمل في صورة دينية.. وبالمنهج ذاته ـ منهج التحرر من الخداع والاعتصام بصرامة العقل من اغراءاته ـ : بالمنهج ذاته لن ننخدع بمجرد اقوال قيلت في احترام الاسلام وامته.. وللتحرر من هذا الخداع موجباته:

أولا: الموجب الاول تاريخي (يمكن للقارئ استعادة السؤال الذي مر قبل ثوان، وهو: هل لدى «قادة الغرب» خبراء امناء كبار يخلصون له النصح والمشورة .. الخ) .. الموجب التاريخي هو: انه في فترات تاريخية امتدح قادة في الغرب الاسلام وأهله، ولكنه مدح قولي انفصل عن (الفعل) الذي يصدقه ويزكيه. ومن ثم شعر العالم الاسلامي بالخداع، وفقد الثقة بالأقوال التي تنقضها الافعال: فحين قرر (نابليون) احتلال مصر بدأ بدراسة الاسلام، بل بلغ حدا في المخادعة حملته على ان يدعي اعتناق الاسلام. واصدر منشورا جاء فيه: «لا إله إلا الله ولا ولد له ولا شريك في ملكه.. ايها المصريون قد قيل لكم انني ما نزلت بهذا الطرف الا بقصد ازالة دينكم. وذلك كذب صريح فلا تصدقوه ايها المشايخ والقضاة والائمة واعيان البلد. قولوا لأمتكم: ان الفرنساوية ايضا مسلمون مخلصون». ولكن اقوال نابليون كذبها فعله. فقد ضربت مدافعه الازهر وما حوله، ودخلت خيله الازهر ووراءها مشاته. دخلوه وتفرقوا بصحنه، وربطوا خيلهم بقبلته، وعاثوا في الاروقة، وكسروا القناديل، وهشموا خزائن الطلبة والمجاورين. وكان ذلك سابقة سياسية من ابشع سوابق مخادعة المسلمين.

وفي عام 1917 وبعد قيام الثورة البلشفية بشهر واحد، اصدر مجلس الشعب البلشفي نداء الى المسلمين هناك (وقع عليه لينين وستالين).. ومما جاء في ذلك النداء : «ايها المسلمون في روسيا.. انتم يا من انتهكت حرمات مساجدكم وقبوركم واعتدي على عقائدكم وعاداتكم، وداس القياصرة والطغاة الروس على مقدساتكم.. ستكون حرية عقائدكم مكفولة. ومنظماتكم الثقافية مكفولة لكم منذ اليوم، لا يطغى عليها طاغ، ولا يعتدي عليها معتد. هبوا اذن فابنوا حياتكم القومية كيف شئتم، فأنتم احرار لا يحول بينكم وبين ما تشتهون حائل، واعلموا ان الثورة تحمي حقوقكم بكل ما اوتيت من عزم وقوة».

ولم يلبث المسلمون المخاطبون بهذا النداء الحار الصريح «!!» ان بوغتوا بـ (الخدعة الكبرى). فقد كذبت الثورة البلشفية، وكذب الاتحاد السوفيتي من بعد، تلك الاقوال الجميلة! والتصريحات الثورية المنصفة! كذبوا ذلك بالافعال والاعمال التي تمثلت في اجتثاث جذور الاسلام هناك، وطي راياته، وطمس شعائره، كما تمثلت في كبت المسلمين، واحالة كل مسلم يضبط متلبسا بقراءة القرآن، الى محكمة ثورية تنتهي ـ ولا بد ـ باصدار حكم الاعدام عليه.

وفي اثناء الحرب العالمية الثانية، ارسل (هتلر) ايماءات ود الى الاسلام والعرب والمسلمين، وقد انخدع بها عرب ومسلمون الى درجة: ان ادعى بعضهم انه رأى النبي صلى الله عليه وسلم في المنام، وفي صحبته هتلر!! وهذا كذب محض. فهذا النبي الجليل الذي جاء لتحرير البشر من الطغاة الجبابرة الظلمة، كهتلر وامثاله، يستحيل ان يكون صاحبا للسفاح هتلر في يقظة او منام.. ومما لا ريب فيه ان تلك الايماءات الهتلرية كانت مجرد خداع قصد به هتلر: توظيف ثقل الاسلام والمسلمين في صراعه مع الحلفاء.

ثانيا: الموجب الثاني للاعتصام بالعقل والوعي من (الخداع القولي) هو موجب راهن ماثل. فعلى الرغم من الكلام الحسن عن الاسلام والمسلمين، جاءت المواقف والافعال لتؤكد ضمنا: ان الاسلام نفسه مستهدف. ولسنا نستند في ذلك الى ما يبثه الاعلام الغربي من هجوم على الاسلام ذاته. فقد قيل: ان هذا الاعلام هناك حر ومستقل (وهذه اكذوبة كشفتها الازمة الراهنة) .. وانما نستند الى مواقف رسمية منها:

أ ـ موقف نادى باعتماد (الاسلام العادي) في الاعتقاد والسلوك.. وهذه وصاية فكرية بالمعنى الموضوعي الدقيق لكلمة (وصاية).. وصاية فكرية يتدخل بها الوصي ليس في شؤون المسلمين، بل في جوهر الاسلام. اذ من الذي يحدد (الاسلام العادي)؟ .. وما معيار الاسلام العادي؟.. وما المقصود بذلك؟.. هل المقصود هو: الاسلام الخاضع لثقافة الغرب ومفاهيمه عن الدين، والحياة، والقيم، والعلاقات الاجتماعية؟، هل هو الاسلام الذي يروض اتباعه على الا يعترضوا على اي سياسة غربية حتى وان كانت هذه السياسة هي التواطؤ المستمر مع الصهيونية على ظلم الفلسطينيين والعرب؟، هل هو الاسلام الذي يسارع في اهواء الناس فيقر انحرافاتهم ويعايشها ويقننها، ومنها: الشذوذ او الزواج المثلي؟.

ب ـ وموقف نادى بـ (تعديل المناهج) ذات الطابع الديني في الوطن العربي والعالم الاسلامي.. ينطوي هذا الموقف على اعتقاد اولئك الناس بأن (البلاء) في الاسلام نفسه.. ولسنا جامدين بخفل من التغيير والتجديد، بل ندعو الى التجديد دوما، ولكنه ليس التجديد او التغيير الذي يأتي بأوامر من اقوام منحوا انفسهم حقا ليس لهم: حق (الوصاية الفكرية)، او (حق الكهنوت الثقافي). وانما هو التجديد الذي حفز عليه الاسلام، ورغب فيه، بصفة دورية متجددة، لا مقطوعة، ولا ممنوعة، ولا مفردة، لا تكون الا مرة واحدة في العمر.

وعلى كل حال هذا موضوع آخر يتعلق بخصوصيات كل أمة، وبمقتضيات سيادتها، وبدواعي اصلاحاتها، ومتطلبات نهضتها وتربية اجيالها.. وهو موضوع مختلف عن (الوصاية الفكرية) التي ولدتها او دفعتها الى السطح حملة مكافحة الارهاب. ثم انه موضوع يتعلق بـ (المفاهيم) الخاطئة، لا بالمصادر المعصومة التي تتلمظ الوصاية الفكرية عليها، وتحاول ان تلغو فيها.

ونحسب ان الفرصة مواتية لطرق قضية تغيير المناهج عند الطرف الآخر.

من الحقائق الاجتماعية والتاريخية والسياسية: ان (العنف صناعة غربية) ولهذه الصناعة مصادرها المعروفة ومن بينها: تمجيد فلسفة القوة.. والتعصب الديني.. ونظرية: البقاء للاقوى. وعلى سبيل المثال: الماركسية بصراعاتها وعنفها الدموي نتاج لمناهج الثقافة الغربية .. والنازية والفاشية الارهابيتان تخلقتا في رحم مناهج الثقافة الغربية.. والصهيونية ـ بارهابها الفكري والتطبيقي ـ نتاج مباشر للثقافة الغربية.. والحروب الطاحنة في اوروبا، غذتها ثقافة غربية نزّاعة الى الضرب والطعن. يقول (رونالد سترومبرج) في: (تاريخ الفكر الاوروبي 1601 ـ 1977): «ان الروح الداروينية القائلة بأن الصراع والمنافسة والقوة هي قوانين الحياة، كانت المنبع الرئيسي لأقوال رجال السياسة وافعالهم.. ونحن اذا استعدنا الى الذاكرة اسماء اولئك الكتاب والمفكرين الذين اعتبروا الحرب قضية مقدسة، لوجدنا انهم كانوا ابرز رجال الفكر والادب في عام 1914. فهناك مثلا: برغسون، وتشارلز بوجي، وفرويد، وهناك ايضا العديد من الشعراء والروائيين مثل: ستيفان جورج، وتوماس مان، وايضا مؤرخون لامعون وعلماء اجتماع مثل: دوركهايم، وماكس فيبر وسواهما».

ولئلا يقال: ان ذلك تاريخ قد انقضى: نقدم نماذج ماثلة من صور ثقافة العنف، وكراهية الآخر، والتحريض عليه:

1 ـ العنصرية الغربية: المحلية والخارجية، نبتت في مناخ الثقافة الغربية، لم تستورد من جامعات المملكة العربية السعودية، ولا من الازهر في مصر.

2 ـ والثقافة الغربية هي التي انبتت المبيدات البشرية او اسلحة الدمار الشامل: النووية، والجرثومية، والكيماوية.

3 ـ والعنف الفردي والعائلي الذي يجتاح مجتمعات غربية هو من المواليد الشرعية لتلك البيئات، ولمناهج التعليم والثقافة والاعلام.

4 ـ والذين يقودون ـ اليوم ـ حملة الكراهية ـ الثقافية والفكرية ـ ضد الاسلام والمسلمين ويحرضون عليهم هم من خريجي مناهج الثقافة والفكر في الجامعات الغربية.

وبمنطق تطهير الكوكب من (ثقافات العنف والارهاب) نرى انه من مسؤولية الغرب ان يبادر الـى تغيير مناهجه تغييرا يؤدي الى تخريج اجيال تنظر الى الآخرين نظرة سوية عادلة.. وتنبذ العنف فكرا وتطبيقا.. وتتحرر من قيود فلسفة تمجيد القوة الباطشة.. ومن ارهاب الآخرين بالوسائل الاعلامية والعسكرية .. اجيال لا تتلذذ بتقبيح الآخر، وبالتفوق العنصري عليه، وبالتحرش به وايذائه.

أجيال ينقه ضميرها وعقلها من المفاهيم الخاطئة التي تلقتها عن الاسلام وأمته من خلال المناهج والأعمال الثقافية والاشكال الاعلامية. وإنا لنرضى، بل ننادي بـ«خيار الصفر الإيديولجي» في هذا المجال.