عندما تحول الحلم الأمريكي إلى رعب لا مثيل له

TT

الحادي عشر من سبتمبر (ايلول) 2001 يمثل يوما مميزا في تاريخ العالم نسبة الى الحدث الرهيب الذي شاهده العالم لحظة بلحظة على شاشات التلفزيون، الهجوم الانتحاري على المركز التجاري العالمي، اعلى مبنيين في منهاتن القلب التجاري لمدينة نيويورك، رمز من رموز قوة الولايات المتحدة الامريكية الاقتصادية، وكذلك على مبنى البنتاغون السداسي الذي يشكل قلعة عسكرية كمقر لوزارة الدفاع الامريكية، رمز آخر من رموز قوة الولايات المتحدة الامريكية العسكرية.

الحادي عشر من سبتمبر جرح امريكا جرحا بليغا في كبرها وكبريائها وعظمتها وقوتها وثقافتها واسلوب حياتها المفعم بالتفاؤل بواسطة افراد كان التطرف الديني آيديولوجيتهم والعنف وسيلتهم والبساطة ادواتهم، واشك، كما يشك الكثير، في ان جرح امريكا سيلتئم على الاطلاق مما يفرض تبدلا نوعيا في تعامل الدول، كبيرها وصغيرها مع نفسها ومع الآخر كان ذلك دولا، شعوبا، مجموعات او افرادا، ومن هنا، فإن محاولة فهم ما جرى في الحادي عشر من سبتمبر وربطه بما قبله وما بعده قد يمهد لنا الطريق لفهم الاحداث المستقبلية.

* نهاية وبداية

* الحادي عشر من سبتمبر سيبقى في ذاكرة التاريخ واهم عوامل بقائه يكمن في كونه نهاية وبداية، نهاية لحقبة تاريخية من السياسة العالمية والعلاقات الدولية ونظام دولي عتيق يئن تحت وطأة تغير وتطور متلاحق ومتسارع لمجتمع دولي، وبداية عصر جديد غير معروف الشكل والمعالم وغير معروف الاساليب والاهداف، ولذا سيلغي الحادي عشر من سبتمبر كل الاحداث السابقة من الذاكرة الفردية والسياسية، ولو بصورة مؤقتة وسيظل الحادي عشر من سبتمبر هو التاريخ الاوحد وما سبقه قبل وما لحقه بعد Pre & Post .

* الحلم الأمريكي

* قبل الحادي عشر من سبتمبر كان الحلم الامريكي يتمتع بأسعد لحظاته، بالرغم من الصعود والهبوط اللذين صاحبا هذا الحلم، كان الحلم الامريكي مستغرقاً ومستمتعاً في حلمه ذي الابعاد الثلاثة، التفاؤل، الحرية والتفوق كما كان مبتهجا، ايضا، بألوانه الزاهية، كان الحلم الامريكي ساذجاً بتفاؤل ومتفائلاً بسذاجة ولم يكن يعبأ بالعالم من حوله، اذ كان العالم الخارجي بجغرافيته وطبوغرافيته وديموغرافيته مع كل ما يتبع ذلك من دول واسماء وثقافات واديان وحضارات ومشاكل، ايضا، يقبع خارج اطار الحلم، بقاء العالم الآخر خارج اطار الحلم الامريكي او بقاء الحالم الامريكي خارج اطار التاريخ العالمي هو نزعة وخصيصة امريكية محضة بدأت قبل قرنين من الزمان مع المستضعفين والعبيد عند تأسيس امريكا واستمرت في الذهن الامريكي حتى استقرت في اذهان العلماء والمثقفين من امثال فوكوياما في كتابه الجدلي «نهاية التاريخ»، لم يكن الحلم الامريكي ليستمر قرونا لو لم تكن هناك من بيئة مناسبة مكنت لذلك الحلم من الاستمرار في التشكل والاستقرار في الاذهان. كان التفاؤل هو الركيزة الاساس لذلك الحلم الجميل بدءا بجمع المال الكافي لنفقات رحلة توصل صاحبها الى شواطئ الحرية وانتهاء بتفاؤل مضاعف وعمل دؤوب للتفوق على ما وصل اليه الآخرون، والمثير، ان الحلم الامريكي لا نهائي لأن النهائية تعني اليقظة وانتهاء الحلم وبالتالي الموت، ولذا نجد ان المثقف الامريكي لا يؤمن بالتاريخ ودوراته ويحاول اما رفض تجربة التاريخ في «صعود وسقوط الدول العظمى» أو نقضها بالتفاؤل، وحتى عندما وجد المثقف الامريكي ان للتاريخ غائية اخرج نفسه من التاريخ لكي لا يصبح عرضة للسقوط.

خلال العشر سنوات التي سبقت الحادي عشر من سبتمبر فقدت امريكا اتزانها بسبب تفكك الاتحاد السوفيتي، سقوط الكتلة الشرقية ومعها حلف وارسو وانتهاء ما سمي بالحرب الباردة، تباهت امريكا بالنصر المؤزر ولم تكن امريكا، وقتها، تعي او تدرك انعكاسات ذلك التفكك والسقوط او انتهاء حرب كانت هي ـ أمريكا ـ السبب الاوحد في صناعتها، اذ كان وجود قوة مماثلة لامريكا سياسيا واقتصاديا وعسكريا وعقائديا يعمل في صالح امريكا في كل المجالات، ولمزيد من النشوة وخشية من ان يستيقظ الحالم الامريكي حاولت امريكا ان تبقي على الحلم مستمرا بأي شكل ولو بأرخص الاثمان فرفضت اي حوار او جدل عقلاني للتفكير البعيد المدى وتباهت بنشوة نصر لم يكن له وجود اصلا واقتنعت ببعض النتائج قصيرة المدى. وبسقوط عدوها المصطنع الشيوعية ادركت امريكا انه لا يمكن لها ان تحيا بدون عدو خارجي، ولو وهميا، يمنحها صلابة المنافسة وحلاوة الممارسة. فقد شكل العداء مع بريطانيا واسبانيا ومن ثم النازية فالشيوعية لب حياتها وديمومة قوتها ولذا عثرت، او عثر لها اخيرا، على عدو يحمل طابع الوهمية والاستمرار والاختيارية، فوجدت ضالتها في الاصولية الاسلامية التي يتجمع فيها حسب الرؤية الامريكية، وجود الآخر والتطرف والارهاب وحقوق الانسان والديمقراطية، مما يمكنها من ان تلعب على ذلك العدو، سياسيا على الاقل ردحا من الزمن.

* الذخيرة الثقافية وأمريكا

* اعتبرت امريكا حرب الخليج الثانية بداية لعصر ونظام وعالم جديد، ولذا رأت ان من الواجب ان يكون القرن بأكمله امريكيا بحتا في الشكل والملامح والمضمون والخصائص. استفردت امريكا بقيادة وادارة العالم في وقت لم تكن امريكا مؤهلة لذلك الدور. فلم يكن لها من الذخيرة الثقافية ما يمكنها من التعرف على العالم الذي وجدت نفسها تديره او تقوده، وكلما حاولت التعرف وجدت امامها ملفات وتعقيدات تاريخية حضارية ثقافية سياسية اقتصادية اجتماعية مجتمعية وعقدية لا يمكن لها في ظل المسارعة العلمية، من ناحية، والضحالة الفكرية والسذاجة الثقافية التي نشأت بها ومنها، من ناحية اخرى، ان تفهم او تدرك عمق المشاكل التي ورثتها.

اتخذت امريكا من الاقتصاد والقوة العسكرية الركيزتين الرئيسيتين في التعامل اما بالدفع او المنع، حزمة من المال او حزمة من الصواريخ.

ومن هنا، جعلت امريكا من حرب الخليج بداية لنهاية، اخفقت امريكا، اولا، في شرق آسيا في ما سمي بالنمور الاسيوية، كما اخفقت، ثانيا، في ايران بسياسة الاحتواء المزدوج، كما اخفقت، ثالثا، في ادارة الازمة العراقية في ما بعد الحرب، كما اخفقت، رابعا وبشكل رئيسي، في معالجة القضية الفلسطينية والنزاع العربي الاسرائيلي. هذا في ما يخص الاخفاقات، ناهيك من عدم النجاح او تحقيق تقدم. فلم تشهد امريكا تطورا يذكر على المسرح الاوروبي سوى التعلق بالخيط الوحيد الباقي من فترة الحرب الباردة، حلف الناتو، الذي ترغب في توسيعه شكلا ومضمونا لكي يشمل كل شيء، كما لم تحقق امريكا اي تقدم يذكر على صعيد العلاقات مع روسيا او الصين، فما تحققه من تقدم في ناحية يوازيه تأخر وتعند في نواح اخرى، مما جعل علاقاتها مع الدولتين العظميين باهتة ويشوبها الكثير من التوجس والحذر. نخلص من هذا الى ان سياسة الولايات المتحدة الامريكية في ما قبل الحادي عشر من سبتمبر كانت متخبطة الى حد يمكن فيه قراءة احداث الحادي عشر من سبتمبر بشكل او بآخر.

* الرعب الأمريكي

* من الساعة الثامنة وخمس واربعين دقيقة حتى الساعة العاشرة من صباح يوم الثلاثاء الحادي عشر من سبتمبر من عام 2001م بدأ الحلم الامريكي يتبدل الى رعب لم تشهد له امريكا مثيلا. بل ان ابعاد وادوات الحلم الامريكي كانت عاملا مساعدا ورئيسيا في تبدل الحلم الامريكي الى رعب امريكي.

ما حدث في الحادي عشر من سبتمبر لا يمكن ان يعرف بأي كلمة او مصطلح، اذ لا يوجد في القاموس البشري، الفكري، السياسي، الاجتماعي او الديني من مصطلح يمكننا من فهم ما حدث او الاشارة اليه. وليس غريبا ان تكون اللغة عاجزة عن التعبير عن حالة بكلمة او مصطلح. ومثل ما يحدث في اللغة من عجز، يعجز العلم ايضا عن وصف ظاهرة بسبب عدم معرفتها او غموضها جزءا او كلا. فمرض نقص المناعة HIV، على سبيل المثال اصاب العلم والعلماء والعالم بالدهشة بسبب غموضه.

ونظرا لاهمية التعلق بمصطلح او كلمة وصفية فلنسم ما حدث ارهابا، ولو مجازا وبصفة وقتية. ولكن، هنا يكمن الجدل، اذ يقع المشكل الاول، وهو اننا لو اطلقنا على ما حدث في الحادي عشر من سبتمبر ارهابا لنفينا بشكل تلقائي ومنطقي كل عمل كنا نطلق عليه ارهابا قبل الحادي عشر من سبتمبر، حيث ان جميع الاحداث السابقة تتناهى في الصغر الى درجة لا يمكن وصفها بالارهاب، والعكس صحيح. كما لا يمكننا، ايضا من خلق مصطلح مركب، بحيث نصف ما حدث في الحادي عشر من سبتمبر بالارهاب الاكبر وما عداه ارهابا اصغر، او الارهاب المكثف وما سواه ارهاباً مخففاً او ارهاباً عالمياً وغيره ارهاباً محلياً او ارهاباً اسلامياً وما دونه او يعلو عليه ارهاباً مسيحياً او يهودياً. المشكل الثاني، يكمن في التشخيص في معرفة ماهية الظاهرة وتعريفها وتحديدها وبالتالي فصلها عن غيرها لفهم الاسباب والدوافع والاساليب والادوات والاهداف. المشكل الثالث، يكمن في العلاج واساليبه وادواته. المشكل الرابع، ان بعضاً من الحالات قد لا تكون حالة مرضية او تتطلب الحل، فقد تكون طبيعية كأمراض الشيخوخة او الموت، او تكون مزمنة بحيث تستعصي على الحل. المشكل الخامس والاخير، ان الحالة قد لا تكون مرضا بقدر ما هي عرض، وانها اعراض اعتلال ومرض يستلزم حلها او معالجتها حكمة بالغة ورؤية ناضجة وقدرة فائقة على التشخيص ومن ثم معالجة الاسباب. ما حصل هو خليط من حرب سياسية وعنف اجتماعي وانتقام ارهابي واختلاف ثقافي وظلم دولي وتراكم تاريخ وانتحار فردي وتخطيط جماعي بموروث عقائدي. ما حصل في الحادي عشر من سبتمبر كان مقصودا به امريكا بالتحديد، امريكا الادارة وامريكا السياسة بحكمها القوة الأوحد في العالم ورأس النظام الدولي العالمي الكوني، وللأسف، كانت ردة الفعل على ما حدث لا تتناسب مع امريكا القوة وتراكم الحضارة الانسانية منذ الازل، اذ لم تعد امريكا هي امريكا التي استقرت في اذهان كثير من البشرية على انها الملاذ الآمن للشعوب والحريات بكل اشكالها الفردية والجماعية سياسيا واجتماعيا ومجتمعيا واقتصاديا وماليا. هول الصدمة عطل قوة العقل واطلق عقال القوة وبدت امريكا بمنظر يستحق الشفقة من كامل شعوب الارض قاطبة، مما سهل على بعض الدول استغلال حالة الضعف الامريكي ونقص المناعة في الجسد الامريكي لكي تعتمد امريكا سياسات خارجية ستنعكس سلبا على بقائها كقوة دولية. هول المفاجأة، ايضا، اضطر امريكا الى اعتماد سياسات داخلية وسن الكثير من القوانين التي تقيد الحريات، حرية الهجرة، والسفر، وتنقل الاموال، والتعبير وحتى حرية الحديث بقصد توفير الامن وابعاد شبح الخوف وبتقييد تلك الحريات عادت امريكا الى دولة عادية ولم تعد مغرية. فهل ادت احداث الثلاثاء الاسود بأمريكا الى الاحتضار؟ وهل نشهد سقوط دولة عظمى بسبب احداث الحادي عشر من سبتمبر، ام بسبب ردة الفعل على تلك الاحداث؟

* باحث سعودي ومدير مركز سعيد العمري للدراسات الاستراتيجية والامنية [email protected]