جورج دبليو بوش وفخ التاريخ

TT

ما الذي يا ترى يجمع بين شخصيات متناقضة في نظرتها، ومتصارعة في سلوكها، مثل الرئيس الأميركي جورج دبليو بوش، والرئيس العراقي صدام حسين، وزعيم حركة طالبان الملا محمد عمر، ورئيس الوزراء الاسرائيلي ارئيل شارون؟ أربعة قادة مبجلين في أوطانهم، أو لنقل عند مريديهم، يكادون يختلفون في كل شيء، إلا في شيء واحد، ألا وهو ثالوث الجهل السياسي، والعمى التاريخي، والحكمة الغائبة، في وقت يقفون فيه على رأس السياسة في بلادهم. والجهل في هذا المجال أنواع، وليس بالضرورة أن يكون مجرد انتفاء المعرفة وغياب العلم. فهناك جهل نتيجة عدم توفر المعرفة لصاحبها، وهو المعنى العام للكلمة، وصاحبه معذور حين لا يحسن التصرف، وان لم يكن معذوراً حين لا يعترف بجهله ويسعى لاكتساب المعرفة من هنا أو هناك. فالجهل في النهاية لا يعني عدم الحكمة، اذ قد يكون المرء جاهلاً، ولكنه يبقى حكيماً، وأول مؤشرات الحكمة هنا هو الاعتراف بالجهل ذاته. بل ان الجاهل الذي يعترف بجهله يكون أكثر حكمة واصابة في مرئياته وسلوكه، من ذاك الذي يدعي كمال المعرفة وتمام العلم، وفي ادعاء الكمال يكمن منتهى الجهل والحمق، اذا وكما قال أبو نصر الفارابي، فإن «من رفع نفسه فوق قدرها، صارت محجوبة عن نيل كمالها». وقد قيل في هذا المجال، ان لم تخني الذاكرة، بأن الرجال أربعة: رجل لا يعلم ويعلم أنه لا يعلم، فذاك جاهل فعلموه. ورجل لا يعلم ولا يعلم انه لا يعلم، فذاك احمق فاجتنبوه، ورجل يعلم ولا يعلم انه يعلم، فذاك غافل فنبهوه. ورجل يعلم ويعلم انه يعلم، فذاك عالم فاتبعوه. فالجاهل قد يكون حكيما بالرغم من جهله، ولكن حين يترافق الجهل بالحمق والغرور، فهنا تكون الكارثة.

والسياسة في عالمنا المعاصر هي فن الممكن، اي فن الاخذ والعطاء، الكر والفر السلمي، بوضوح في الغاية المتوخاة، وجلاء في السبيل الى تلك الغاية. ولو نظرنا الى الرجال الأربعة المذكورين، لوجدنا ان كلاً منهم يمارس السياسة من خلال اوهام سياسية مغلفة بهواجس نافخة للذات، «تحجب النفس عن نيل كمالها»، ويعتقد انها غايات سياسية، ولا يعلم انها أوهام سياسية، وبوسائل تتخذ من فرض الغاية وسيلة، بينما يمكن تحقيق ذات الهدف بوسائل مختلفة. لب السياسة والممارسة السياسية هو الانتقاء من بين البدائل والخيارات ما هو الأنسب لتحقيق الهدف بأقل التكاليف وأيسر السبل الممكنة، ولكن في حالة هؤلاء تحولت الوسيلة الى هدف، وانقلب الهدف في النهاية الى الوسيلة ذاتها. ورحم الله معاوية بن أبي سفيان وهو القائل: «اني لا اضع سيفي حيث يكفيني سوطي، ولا اضع سوطي حيث يكفيني لساني، ولو ان بيني وبين الناس شعرة ما انقطعت. فقيل له وكيف كان ذلك؟ قال: اذا مدوها ارخيتها، واذا ارخوها مددتها». درس بليغ في الحكمة السياسية لمن أراد ان يتعلمها. فبمثل هذه الحكمة في السياسة، أو لنقل بمثل هذا الفهم العميق لعالم السياسة ومتاهاتها، ساد ابن أبي سفيان، في صراعه مع من كان يعتقد انه غير كفء لمنافسته، فكان من دهاة السياسة المذكورين في التاريخ.

وعودة الى رجالنا الأربعة، نجد انهم أبعد ما يكونون عن مثل هذا الوصف لمعاوية لعالم السياسة، وبالتالي فإن فشلهم في تقديري سيكون تحصيل حاصل في النهاية. فأولهم، وليكن الرئيس الأميركي جورج بوش الابن وادارته، ينطلقون من وهم «نهاية التاريخ وخاتم البشر» في العلاقات مع كل ما هو غير أميركي. ذاك الوهم الذي نظر له من اخذتهم النشوة الآنية بسقوط المعسكر الاشتراكي، فجعلوا من المؤقت دائماً، ومن المتغير ثابتاً، ومن الخيار حتماً، واكتشفوا بعد حين أنهم من الواهمين، ولكن أهل السياسة في «الكابيتول هيل» و«الوايت هاوس» بقوا في أوهامهم يهيمون. فقبل احداث الحادي عشر من سبتمبر، كانت السياسة الخارجية الأميركية قائمة على «استفزاز» الجميع، بغطرسة مفرطة حتى بالنسبة للحلفاء في أوروبا الغربية، ناهيك عن الخصوم السابقين في أوروبا الشرقية، والحلفاء الفعليين والمحتملين في الشرقين الاقصى والأدنى. فكما يبدو، فإن الجيل الجديد من محترفي السياسة في أميركا، وجورج الابن مثال لهم، ينطلقون من وهم كبير مفاده ان اميركا هي العالم، وان العالم هو اميركا، وبالتالي فإن ما هو صالح لأميركا، لا بد أن يكون صالحاً لبقية العالم.

صحيح ان اميركا هي الاكثر تفوقاً في العالم اليوم تقنياً وعلمياً واقتصادياً، وهو تفوق يتعامل معه الجميع على انه واقع فرض نفسه، وحقيقة من حقائق تاريخ العالم في هذه اللحظة من عمره، ولكن ان يترجم هذا التفوق غير السياسي الى سيادة سياسية مفروضة ومباشرة، هنا يكمن الخطأ وقصور النظر في ممارسة اللعبة السياسية الدولية. لا شك ان اميركا عملاق سياسي، نتيجة عملقتها في الأمور الاخرى المذكورة آنفاً، ولكن شتان بين ممارسة هذه العملقة بشكل غير محسوس، وبين ممارستها وفق آليات الضغط والاكراه المباشرين. فمثل هذا الأمر، أي الفرض المباشر للسيادة، يستثير كوامن النفس البشرية لدى بقية العالم، من حيث رفض القسر والاجبار، على اعتبار ان ذلك نوع من الوصاية التي تأباها النفس، وتمجها الذات. فحتى لو كان ما تفعله اميركا أو غيرها، هو الصالح كل الصلاح للعالم، وحتى لو كان من هو ممارس عليه هذا الامر، يعلم ان فيه الصلاح كل الصلاح، فإن القسر والاكراه يجعله مرفوضاً. فن القيادة، في الداخل والخارج على السواء، هو ان تجعل المقاد يعتقد انه فعل هذا الأمر أو ذاك الشيء بملء ارادته، وليس بأمر أو قسر، رغم أنه يعلم في دخيلة نفسه أنه يفعل ما أريد له أن يفعل. قضية سيكولوجية؟ نعم، وفي السيكولوجيا تكمن إجابة ما لا اجابة له في كثير من الأحيان.

وفي اعقاب ما حدث في نيويورك وواشنطن، وهو نتيجة جزئية رهيبة لتراكمات سياسية وغير سياسية سابقة في العلاقة مع اميركا، وصلت الى لحظة اليأس عند من قام بها، فكان ان دمر نفسه والآخرين وفق خيار شمشون. كان على الادارة الاميركية بعد تلك الاحداث ان تعي انها في النهاية جزء من العالم مهما كانت عظمتها، وليست بمعزل عن مشاكله كما كانت تحاول ان توهم نفسها. ولكن المشكلة ان الادارة الاميركية لم تتعامل مع هذا الحدث الرهيب ونتائجه وفق وعي جديد قائم على ادراك الحقيقة السابقة، أو وفق حكمة سياسية تليق بمن يدير شؤون القوة الأولى في عالم اليوم، بقدر ما تعاملت معه على أنه امتهان للكرامة الاميركية، وجرح للصورة النموذجية العالمية المتعالية التي وضعت الولايات المتحدة نفسها فيها، أو اوهمت نفسها بهذه الصورة، فإن تقوم الولايات المتحدة بالهجوم على طالبان ومواقع الارهاب في افغانستان، بعد ما جرى في نيويورك وواشنطن ونيروبي ودار السلام وعدن، فإن ذلك هدف مشروع، ولها الحق في ان تفعل ذلك، اذاً وكما قال علي بن ابي طالب رضي الله عنه: «الشر بالشر، والبادئ اظلم». ولكن ان تتخذ من هذه الاحداث ذريعة للهجوم على من تشاء ووقت تشاء في هذا العالم، فأعتقد ان ذلك قصور في النظر، ولا يشكل ذلك ممارسة سياسية حكيمة، وفق المعنى السابق للسياسة، بقدر ما يشكل نوعاً من غطرسة لا مبرر لها، ونوعاً من فرض وصاية على عالم يعامل وكأنه جماعة من أطفال قصر، أو نساء لا قيمة لهن في بلد من بلاد الشرق الحديث أو الغرب القديم. فالأريب هو من يعرف متى يستخدم العصا، ومتى تكفيه الاشارة، وأي افراط او تفريط في هذا او ذاك، تكون نتائجه وخيمة على النفس والآخرين. وهذا هو بالضبط ما فعلته اميركا في سابق سياستها الخارجية، وما يلوح في الأفق من أنها ستفعله رغم كارثة سبتمبر، ولذلك يتزايد كره أميركا في هذا العالم.

فمحاربة الارهاب واجبة في كل ارجاء العالم، ولكن ما هكذا يا سعد تورد الإبل. الهدف مشروع، والوسائل عديدة، ولكن التركيز على وسيلة واحدة بعينها يعني ان تلك الوسيلة قد تحولت الى غاية بحد ذاتها، وضاع الهدف الأصلي والمفترض لكل ما يجري. انه ذات الوهم تقريباً الذي تشبعت به المانيا النازية، حين اعتقدت او توهمت بأن «المانيا فوق الجميع»، فعاداها الجميع في النهاية، أو لنقل أنه ذات الوهم الذي سيطر على امبراطوريات التاريخ الكبرى، حين وصلت الى قمة ازدهارها واعتقدت ان التاريخ قد توقف في النهاية عند عتباتها المقدسة، فاعتقد الاغريقي او الروماني ان كل من عاداه هو بالضرورة بربري متوحش، واعتقد العربي ان كل من عاداه هو بالضرورة من الأعاجم (من العجمة)، واعتقد الأوروبي ان كل من عاداه لا بد ان يكون متوحشاً وثنياً كافراً، حتى لو كان من الموحدين. قد يكون متوحشاً نبيلاً، ولكنه يبقى متوحشاً. الوهم الذي تشبعت به أميركا وقيادتها من الجيل الجديد بعد سقوط امبراطورية السوفيت، هو ان اميركا اصبحت «فوق الجميع»، وأن العالم قد اصبح اميركياً، فحيث تولوا وجوهكم فثم وجه اميركا: هكذا حكم التاريخ وقضى، رفعت الأقلام وجفت الصحف.

اعتقاد الكمال هو الفخ الخفي الذي ينصبه التاريخ للدول والمجتمعات التي تعتقد انها قد وصلت الى قمة ازدهارها، ولم يعد بالامكان بالتالي افضل مما كان. ولكن دائما يكون لكل شيء اذا ما تم نقصان، ولو دامت لغيرك ما وصلت اليك. فحين كان هارون الرشيد يقول للسحابة في السماء امطري حيث شئت، فخراجك سوف يأتيني ولو بعد حين، كان يعبر عن ذاك النقصان الذي يعتري الاشياء اذا ما تم لها التمام، واعتقدت بالكمال ونهاية التاريخ. هي جملة نعتز بها حين يأخذنا الحنين الى ماض كنا فيه اسياداً، ولكنها حين التحليل تعبر في النهاية عن ذات الغرور الذي ينتاب اميركا اليوم، وانتاب بريطانيا وروما واثينا قبل ذلك، حين دخل الجميع في ذاك الوعي الاستعلائي، او العمى التاريخي، وادرك التاريخ انهم قد دخلوا في فخه الخفي، وبكلمات اقل غموضاً وتجريداً، فإن المؤرخ الاميركي بول كينيدي، يرى ان الوصول الى القمة هو بداية انحدار القوى الكبرى في التاريخ. فللحفاظ على قوتها، تقوم هذه القوى بتشتيت وانهاك قواها الاقتصادية والعسكرية، وتنهار شيئاً فشيئاً دون أن تشعر. وهم القوة وغرور السلطة هما اللذان يجعلان هذه القوى تنجرف الى فخ التاريخ دون أن تدري. والولايات المتحدة اليوم منجذبة الى توسيع رقعة عملياتها العسكرية، وقد قسمت العالم الى قسمين: من لم يكن معي ضد الارهاب، فهو ضدي ومع الارهاب، وهو ذات المنطق الذي قسم فيه بن لادن وطالبان ومريديهم العالم الى فسطاط ايمان، وفسطاط كفر ونفاق، وهو ذات المنطق الذي قاد قوى وحركات اخرى في التاريخ الى حتفها في النهاية.

ومن عناصر فخ التاريخ هذا، أو مكر التاريخ اذا كان لنا ان نستخدم مصطلحات هيغلية، هو انه يهيئ لمن يريد له الانحدار، افراداً مصابين بالعمى التاريخي، فلا يرون ابعد من اللحظة التي يعيشونها، دون تفكير في مآل الاحداث، وخاتمة المطاف. حصل ذلك في التاريخ البعيد والقريب كثيراً، ويبدو انه يحدث اليوم في اميركا. هل يعني ذلك ان اميركا مآلها السقوط كقوة عظمى من قوى التاريخ؟ في النهاية فإن كل شيء فان، ولا يبقى الا وجه ربك ذو الجلال والإكرام، ولكننا لا نتحدث عن هذا النمط من التاريخ. التاريخ الذي نتحدث عنه هنا يقول انه لا شيء حتمي، وهو «لا يجري على قضبان نحو مستقبل تم تحديده سلفاً»، كما يقول الفن توفلر. ولكن النتائج مرتبطة بمقدماتها وأسبابها في الختام. فإذا استمرت اميركا في استخدام سياسة العصا في كل حالة عسرة تواجهها، فيمكن القول انها قد بدأت تغرق في بؤرة رمال متحركة سوف تبتلعها في النهاية. وان استفادت من تجارب القوى العظمى قبلها، فإنها قد تصبح من نوادر الناجين من الغرق في مستنقع التاريخ وفخه. المستقبل ليس حتما مغلقاً، ولا هاوية لا بد من السقوط فيها، بل هو خيارات وبدائل، ولكن على اميركا نفسها ان تختار أولاً، فماذا يكون الخيار؟ هذا ما ستبديه لنا الأيام القادمة، وتكشفه لنا لحظات الخيار الحاسمة، وساعتها نستطيع الحكم بأن أميركا نجت، أو أنها في النهاية انضمت الى قوافل الغارقين.. هذا ويستمر الحديث.