الصراع الفلسطيني ـ الإسرائيلي .. خصائصه وأبعاده ومستقبله

TT

من الثابت في تطور المجتمعات القومية والدولية، أنه ليست هناك أحداث من صنع الصدفة ولا وجود يصنعه الهباء. وظاهرة الصراع البشري هي تعبير عن موقف ينشأ من التناقض في المصالح أو القيم بين طرفين أو أكثر يكونان على وعي وإدراك كامل بوجود هذا التناقض مع سعي كل من هذه الأطراف للاستحواذ على موضع لا يتوافق، بل ربما يتصادم مع أهداف الأطراف الأخرى، فالظاهرة تفترض وجود تعارض وتناقض في أحد أبعاد الوجود البشري، وأن استمرار هذا التعارض والتناقض لا بد أن يفضي إلى أحد أمرين، إما الصدام بين الأطراف المتصارعة أو إدارته وحله.

وتأسيساً على التفسير العلمي لظاهرة الصراع القومي أو الدولي، تبدو أهمية تحديد طبيعة الصراع الفلسطيني ـ الإسرائيلي وأبعاده كشرط ضروري لتحديد مساره والتنبؤ بمستقبله. والصراع الفلسطيني ـ الإسرائيلي هو صراع القرن العشرين بلا منافس فهو الأطول عمراً والأكثر عمقاً وتعدداً والأبعد تأثيراً وخطراً على الصعيدين الإقليمي الشرق أوسطي والاستراتيجي الدولي.

وإذا كان ثيودور هرتزل مؤسس الصهيونية السياسية ومؤسس المنظمة الصهيونية العالمية W.Z.O، التي عقدت أول مؤتمراتها في مدينة بازل السويسرية عام 1897 وهو صاحب فكرة الدولة اليهودية الذي بشر بقيامها منذ نهاية القرن التاسع عشر، فإن وقائع التاريخ تؤكد أن الحركة الصهيونية بدأت بمخطط أوروبي قبل أن يبشر بها هرتزل ويصدر كتابه عن الدولة اليهودية. لقد بدأت حركة الاستيطان فعلياً في فلسطين خلال الربع الأخير من القرن التاسع عشر. بدأت واقعياً وفعلياً وبدعم أوروبي عام 1881، وقد حملت هذه الحركة اسم الصهيونية العملية، لأنها سابقة لتأسيس الحركة الصهيونية، إلا أنهما تعاونا معاً في ما بعد لتحقيق الهدف المشترك. ومن اللافت للنظر أن عملية استيطان فلسطين قبل تأسيس الصهيونية السياسية عام 1897، جاءت في أعقاب تدمير القوة العسكرية المصرية في منطقة الشام وجنوبه الفلسطيني وفرضت القوى الأوروبية على مصر شروطها باتفاقية لندن تمهيداً للاحتلال البريطاني لمصر الذي بدأ عام 1882.

* أوروبا والحركة الصهيونية

* وهكذا فإن السياسة الأوروبية بصفة عامة والبريطانية على وجه الخصوص قررت «خلال الربع الأخير من القرن التاسع عشر» امتطاء موجة الحركة الصهيونية بهدف اخضاع العالم العربي للسيطرة والنفوذ الأوروبي بعد انسلاخ هذا العالم من الامبراطورية العثمانية المتداعية أو ما أطلق عليه اسم «رجل أوروبا المريض».

وقد بدأ تنفيذ المخطط باحتلال مصر عام 1882 وتوقيع الاتفاق الودي عام 1904، وإبرام اتفاقية سايكس ـ بيكو 1916 لتقسيم المشرق العربي واختتم بالإعلان البريطاني الشهير الذي عرف باسم «وعد بلفور» عام 1917، الذي تضمن وعد بريطانيا العظمى بإنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين وتكرس الوعد واقعياً في اتفاقية صلح فرساي 1919، بمنح بريطانيا الانتداب على فلسطين.

وبالرغم من وضوح الاستراتيجية الغربية لخلق كيان سياسي ينتمي إلى الحضارة الغربية ويتبنى قيمها وأنماطها السلوكية الفردية والجماعية في قلب الشرق، فإن الحركة الصهيونية استطاعت بشكل يبعث على الدهشة أن توظف الأهداف السياسية والحضارية الغربية في خدمة أهداف الصهيونية العالمية.

فقد استطاعت الحركة الصهيونية منذ انعقاد مؤتمرها الأول عام 1897 وصدور برنامج عملها المعروف باسم «برنامج بال»، ان تحقق قفزات في مسيرتها نحو السيطرة على فلسطين، حيث حققت منذ تأسيسها وثبة ذات أهمية كل عشر سنوات.

يوصف العقد الأول للحركة (1897 ـ 1907)، بأنه عقد بناء المؤسسات الرئيسية للحركة: مالية وإدارية ودعائية، فضلاً عن إجراء الاتصالات السياسية وتهيئة الجو للتنفيذ. وبدأ العقد الثاني 1907 ليشهد مولد «الصهيونية التوفيقية» التي دعا إليها وايزمان وأقرها المؤتمر الصهيوني الثاني عام 1907 والتي تدعو للتسلل البطيء إلى فلسطين وإقامة مستعمرات يهودية مزدهرة كنواة لمجتمع صهيوني جديد، وبذلك تحصل الحركة من السلطات المعنية على براءة الاعتراف بالوجود، ومن الأسرة الدولية على الضمانات اللازمة لحماية ذلك الوجود.

جاء العقد الثالث عام 1917 حاملاً في بدايته الرخصة السياسية الرسمية من الحكومة البريطانية باستيطان فلسطين. وقد حظيت الرخصة السياسية بموافقة عصبة الأمم، وتم إدراجها في صلب صك الانتداب البريطاني على فلسطين.

ودخلت الحركة الصهيونية عقدها الرابع عام 1927 بنجاحها في الحصول على اعتراف رسمي بتنظيماتها المحلية في فلسطين وأسندت حكومة الانتداب البريطاني للهيئات الصهيونية قسطاً من الصلاحيات الرسمية وشبه الرسمية. ومنذ ذلك التاريخ تمتعت المستعمرات اليهودية بقدر كبير من الحكم الذاتي. وجاء العقد الخامس بحلول عام 1937، حيث أوصت لجنة ملكية بريطانية بتأسيس «دولة يهودية» في جزء من فلسطين، ثم ما لبثت الحركة الصهيونية أن رفعت شعار «إقامة دولة»، مطلباً رسمياً وسياسياً للحركة، ولم تعد تقنع بمجرد إقامة، «وطن قومي»، لليهود طبقاً لما نص عليه وعد بلفور. وعندما أطل العقد السادس من عمر الحركة الصهيونية عام 1947 احتفلت بانتصارها التاريخي. فقد أصدرت الجمعية العامة للأمم المتحدة في خريف ذلك العام توصيتها الشهيرة بتقسيم فلسطين بالقرار 181 لسنة 1947 وإقامة دولة يهودية في جزء من أجزائها.

وتابعت دولة إسرائيل انجازات الحركة الصهيونية العالمية في عقدها السابع بحلول عام 1956، حيث جنت ثمار التحالف مع إنجلترا وفرنسا في شن العدوان الثلاثي على قطاع غزة ومصر. وبالرغم من الفشل السياسي والمعنوي لحملة السويس، استطاعت إسرائيل انتزاع كسب اقتصادي واستراتيجي بعد أن ضمنت حرية الملاحة في خليج العقبة ومضيق تيران المؤدي إليه، وهو الذي سمح للدولة الإسرائيلية بفك الحصار العربي عليها في نقطة هامة، وإقامة شبكة من المواصلات البحرية مع بلدان شرق افريقيا وآسيا بشكل منتظم. بدأ العقد الثامن بأكبر انتصار في تاريخ الحركة الصهيونية ودولة إسرائيل، ونعني الانتصار العسكري الكاسح في حرب الأيام الستة (حزيران 1967) بعدما تمكنت من سحق القوة العسكرية لثلاث دول عربية (مصر، سوريا، الأردن) في زمن قياسي، وتمكنت من احتلال ما تبقى من أرض فلسطين (الضفة الغربية وقطاع غزة)، بالإضافة إلى شبه جزيرة سيناء المصرية ومرتفعات الجولان السورية.

* مكاسب إسرائيلية

* وقد ترتب على الانتصار العسكري الإسرائيلي عدة مكاسب للدولة العبرية أهمها:

1) الاعتراف بالوجود الإسرائيلي في الشرق الأوسط اعترافاً واقعياً من جانب الدول العربية.

2) اتجاه الدول العربية نحو قبول التعايش مع دولة إسرائيل كإحدى وحدات الشرق الأوسط، مع التريّث حتى تتغير القيم السياسية السائدة ليتم قبول عدو الأمس شريكاً لليوم وصديقاً للغد. وهكذا، تم قبول قرار مجلس الأمن رقم 242 الصادر في 22 تشرين الثاني 1967، الذي ينص صراحة على حق جميع دول المنطقة في الوجود والعيش في حدود آمنة ومعترف بها مع ضرورة انسحاب إسرائيل من الأراضي التي احتلتها في حزيران 1967.

3) اقتناع الدول العربية باستحالة صلاحية استراتيجية الاستئصال العسكري للوجود الإسرائيلي، وأن البديل الممكن هو محاولة تبني استراتيجية تقوم على الاستيعاب السلمي لذلك الوجود، بما تحمله هذه الاستراتيجية من مسالمة إسرائيل وإقامة علاقات طبيعية معها. وبالرغم من التحولات السياسية التي أعقبت حرب الأيام الستة عام 1967، فإن الإرادة السياسية العربية لم تتبلور حينذاك في خطة أمنية أو سياسية تتوازى مع التغيرات السياسية، فلم يتم الاتفاق على استراتيجية عربية لمواجهة الحقائق الجديدة في المشرق العربي وسيطرت المصالح القطرية على حساب رؤية إقليمية عربية شاملة تتسم بالواقعية. لقد حققت دولة إسرائيل والحركة الصهيونية مع بداية العقد التاسع من عمرها انتصارها السياسي التاريخي وهو اكتساب الشرعية الإقليمية كبديل للاعتراف الواقعي في الشرق الأدنى وكنتيجة لمبادرة الرئيس المصري الراحل أنور السادات بزيارة القدس في تشرين الثاني 1977، وعقد اتفاقيتي كامب ديفيد في أيلول 1978 وإبرام اتفاقية السلام المصرية ـ الإسرائيلية في واشنطن بتاريخ 26 آذار 1979.

ومع تمام القرن الأول أو العقد العاشر من عمر الحركة الصهيونية تحقق لدولة إسرائيل السلام مع المملكة الأردنية الهاشمية عام 1994، وحققت قبلها الشراكة السياسية مع الطرف الأصيل في الصراع العربي ـ الإسرائيلي، ونعني الطرف الفلسطيني، أو إن شئت جوهر الصراع في المنطقة، وذلك بالتوقيع على اتفاقيات أوسلو 1993، وما تبعها من اتفاقيات بين إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية.

لقد ثبت بعد قرن من اندلاع الصراع الفلسطيني ـ الإسرائيلي، انه صراع ذو طبيعة خاصة، وقد ترتب على هذه الطبيعة عدة خصائص مميزة لهذا الصراع، وبالجملة فإن اكتشاف طبيعة الصراع وتحديد خـصائصه يعد شرطاً ضرورياً للتصدي لهذا الصراع بالإدارة أو التسوية. فالصراع الفلسطيني ـ الإسرائيلي اكتسب طبيعته الخاصة وتفرده بسبب دولية نشوئه ووطنية نتائجه، بينما تبدأ الصراعات الدولية وطنية وتتسع لتشمل الرقعة الإقليمية Regional، التي يمكن أن تستثير بحكم المصالح أو التوازنات تدخلات دولية فيما يعرف بتدويل الصراع. فرضت طبيعة الصراع الفلسطيني ـ الإسرائيلي نفسها على تطور الصراع من جانب وتعدد ابعاده وتميزها من جانب آخر.

فبالرغم من ان الصراع الفلسطيني ـ الإسرائيلي هو جوهر الصراع العربي ـ الإسرائيلي، فإن الطرف الفلسطيني يمثل الطرف الأضعف اقتصادياً وعسكرياً بالمقارنة مع الطرف الإسرائيلي، ومن هنا فإن الاختلال الكبير في ميزان القوة للقوتين الفاعلتين Actors، في الصراع، أدى إلى استدعاء المشاركة الدولية. وهكذا بدأ الصراع دولياً تفرض ظروف تسويته تدخلاً دولياً بصرف النظر عن إرادة طرفية وذلك حتى يتحقق التفاعل Interaction، ويتأسس الهيكل Structure، المنظم للعلاقات، فضلاً عن توفير الوسط Environment الملائم، والحدود Boundaries الفاعلة بين طرفي الصراع.

* مرحلة الحسم

* لقد اقتربت القضية الفلسطينية ـ لأسباب عديدة ـ من مرحلة الحسم، أو ان شئت الدقة من النقطة الحرجة في مسيرتها الطويلة التي استمرت على مدى قرن من الزمان عبر سلسلة من المواجهات الدامية والصراع المرير. وإذا كان الصراع الفلسطيني ـ الإسرائيلي هو صراع القرن العشرين في الشرق الأوسط بلا منافس، والذي نشأ من التناقض الحاد بين القيم السياسية والقومية، فضلا عن المصالح المتناقضة بين طرفيه، فإن التصدي لإدارته وتسويته سلمياً يحتاج إلى توافر البصر الحاد والبصيرة النافذة ليصل إلى التسوية الآمنة. وإذا كان طرفا الصراع سارا في طريق التسوية السياسية عبر التوصل إلى اتفاق اوسلو 1993، وإقامة سلطة الحكم الذاتي الفلسطيني في بعض الأراضي الفلسطينية، والذي يعتبر نقطة فاصلة بين عصرين، فإن ذلك ـ على الرغم من أهميته ـ لا يعني حل الصراع الفلسطيني ـ الإسرائيلي أو تسويته سياسياً.

ونظراً لأن الإسرائيليين والفلسطينيين، لم يتخلوا عن قيمهم السياسية والقومية بشكل واضح، فضلاً عن تشابك مصالح القوى ذات العلاقة إقليمياً ودولياً، فإن مسيرة التسوية السياسية لا تخلو من وعورة الطريق وضبابية الهدف.

والصراع الفلسطيني ـ الإسرائيلي بأهمية أطرافه وخطورة موضوعه والحساسية الفائقة لهيكل القوى المتحكمة في متغيراته Variables، يفرض التدويل على طرفيه في وقت تتزايد فيه المخاطر في الشرق الأوسط، وفي ظل هيكل قوة في نظام دولي رخو آخذ في التشكل، ونظام أوروبي متعثر في جناحه الشرقي مع تسارع خطاه الاندماجية، فضلاً عن شرق أوسط تتجاذب وتتنافر قواه الإقليمية من دون أن تقرر مصيرها انتظاراً للتسوية الفلسطينية ـ الإسرائيلية المرتقبة. وهكذا فإن الصراع الفلسطيني ـ الإسرائيلي يحمل في طياته مخاطر الصدام بقدر ما يحمل من فرص التسوية.

* سفير مصر لدى السلطة الوطنية الفلسطينية