دانتي وميناء الجحيم

TT

يسألني القارئ الكريم مصطفى القادري عن حقيقة تأثير الثقافة الإسلامية في الكوميديا الالهية لدانتي، ويفترض سلفا ان التأثير موجود وان البحاثة الاوروبيين كانوا يعرفون ذلك ويخفونه الى ان قام الاكاديميون العرب بكشف «سرقاته» فاضطر الأوروبيون للاعتراف بما اخفوه زمناً طويلاً.

أما فرضية التأثير ـ ولا حاجة للاتهام بالسرقة ـ فصحيحة لكن يجب ألا نبالغ في الدور الريادي لاكاديميينا على هذا الصعيد، فالابحاث التي تعرضت لهذه المسألة موثقة ومؤرخة والذين تعرضوا أولا للتأثير الاسلامي في دانتي هم ـ للحقيقة ـ من الغربيين المطعمين بنكهة شرقية.

لقد طرحت قضية تأثر دانتي بالثقافة الاسلامية للمرة الاولى سنة 1901 من قبل عالم فرنسي متخصص بالثقافة الفارسية هو (إ.. بلوشيه) الذي أعد ـ انذاك ـ بحثا عن المصادر الشرقية للكوميديا الالهية، ثم جاءت الاضافة الاساسية والمعمقة من (ميجيل أسين بلاثيوس) الذي كان بحثه المعنون «الآخرويات الاسلامية في الكوميديا الالهية» المقدم للاكاديمية الملكية الاسبانية عام 1919 بمثابة قنبلة علمية هزت الاوساط الاكاديمية الاوروبية ووضعت الكرة، كما يقولون في لغة التبسيط السياسي، في ملعب الايطاليين على اعتبار ان التأثير الاسلامي وصل لدانتي عن طريق جامعتي بولونيا وبادوا في شمال ايطاليا.

الرد الايطالي جاء لاحقا بوساطة المستشرق الايطالي (انريكو تشيرولي) الذي وضع كتابا هاما على هذا الصعيد اسمه «المعراج ومسألة المصادر العربية ـ الاسبانية للكوميديا الالهية»، وفي ذلك الكتاب عرفنا للمرة الاولى عن ترجمة الاسراء والمعراج للاتينية مبكرا والتي قام بها منذ عام 1264م الطبيب اليهودي ابراهيم الحكيم. وجميع ما توصل اليه تشيرولي الايطالي ايد ما ذهب اليه المستشرق الاسباني بلاثيوس.

وتدين الثقافة العربية ـ الاسلامية لميجيل اسين بلاثيوس بالكثير، فهو الذي قدم ابحاثا هامة عن ابن عربي والغزالي وابن حزم، ودرس قبل ذلك آثار فلسفة الاندلسي ابن مسرة على «روجر بيكون» و«ريموند لولي» وجمع لاحقا جميع ابحاثه المتعلقة بتأثير الاسلام في اوروبا ـ ومنها بحث دانتي ـ في كتاب (تأثيرات الاسلام) الذي صدر عام 1941 في السنة التي مات فيها ذلك المستشرق الكبير والمؤثر.

وتتمثل الاضافة العربية في موضوع تأثر دانتي بتوضيح حجم ما استلفه دانتي من ابي العلاء المعري في رسالة الغفران وهذه مسألة لا تزال خلافية، ومضطربة النتائج، فالاستفادة من الحكاية الشعبية للاسراء والمعراج ثابتة اما تأثير رسالة الغفران فلا يزال بحاجة الى ابحاث أخرى.

وقد جاءت دراسات التأثير الاسلامي في دانتي من مصدر ثالث هو جمهوريات الاتحاد السوفيتي الاسلامية، وهناك بحث شهير لاكاديمية من طاجكستان اسمها (م.. شهيدي) عن ابي علي بن سينا تعرضت فيه لتلك التأثيرات. ومن المعروف ان دانتي قد وضع الفيلسوفين العربيين ابن رشد وابن سينا في «اللمبو» وهو بمثابة ميناء لجهنم ويقيم فيه عادة أولئك الذين لا يدخلهم دانتي الى الجحيم لانهم اما ماتوا قبل ظهور المسيحية، أو لم ينالوا المعمودية، وكانت فيهم عناصر خير تؤهلهم للبقاء (ما بين الجنة والنار) بلغة نزار قباني.

ويبدو ان دانتي لم يتأثر بالمصادر الاسلامية، فحسب، انما بالحساسيات المذهبية لتلك المصادر وكاتبيها، فهو يضع الخليفة الراشدي الرابع علي بن ابي طالب رضي الله عنه في الخندق التاسع من الحلقة الثامنة الملتهبة في جحيمه وهي مخصصة لمثيري الانشقاقات الدينية والسياسية.

ومهما كان الامر، فالتأثير مثبت، واول من كشف عنه الغربيون، وليس نحن، والتأثير ليس في كتاب واحد انما في ثقافة بكاملها، فالثقافة الاوروبية في القرون الوسطى كانت تقف من ثقافتنا موقفنا الحالي من الحضارة الغربية، وتحاول ان تتعلم منها علمياً وثقافياً بوصفها ـ آنذاك ـ الحضارة الاقوى، فالحضارات الغالبة تغري بالتقليد، وتجعل ابناء الحضارات الأقل شأنا ينبهرون بما فيها وما عندها.

وقد كان عندنا الكثير لنعطيه، وهذه العبارة ليست للتشجيع للنوم على أمجاد الماضي انما لاستثارة الهمم للنهوض، ومواصلة العطاء، فالاجداد ليسوا افضل من الاحفاد لكن من كان يحكمهم ترك الفضاء مفتوحا للتفكير الحر، فكانت الذخيرة كبيرة ومثيرة، فالفكر والابداع لا يزدهران الا في المناخ الذي يتبنى التسامح اسلوبا للتعايش، والحرية مظلة للتفاعل وحماية العقليات الفذة والمواهب المتفردة.