صدام المصالح لا العقائد

TT

يلاحظ جيفري ساشس، مدير مركز التنمية الدولية في جامعة هارفرد في مقالة مهمة منشورة مؤخراً بصحيفة «فايننشال تايمز»، أن سبب تخلف المسلمين ليس عائداً لأسباب ثقافية أو عقدية كما هو التصور السائد حالياً في الأدبيات الفكرية والسياسية الغربية، وإنما راجع لعوامل جيواستراتيجية، نادراً ما يتم التنبه لها.

ويذهب ساشس إلى أن العامل الايكولوجي كان حاسماً في هزائم الممالك والدول الإسلامية في مواجهة خصومها الأوروبيين، بالنظر إلى ما توفر لأوروبا المسيحية من ميزات جغرافية مميزة، من خصوبة الأرض وكثرة الأمطار وبالتالي سهولة العيش ورغد الحياة. وللتدليل على أطروحته، يذكر ساشس أنه في حين كان الإسلام في أوج صعوده ونموه، عام 800 للميلاد، كان عدد سكان الدول الإسلامية والدول المسيحية متساوياً تقريباً (30 مليونا لكل واحد من المجالين)، في حين كانت أغلب المدن التجارية المزدهرة توجد في الفضاء الإسلامي، من بينها ثلاث عشرة يتجاوز عدد سكانها 50 ألفا، مثل مكة المكرمة والقاهرة وبغداد، أما في أوروبا الغربية، فلم تكن ثمة مدنية بهذا المستوى سوى روما. ومع الزمن انقلب الحال، ومالت الموازين الديمغرافية، بصفة ملموسة لصالح الطرف الأوروبي، الذي تمكن من بناء تقاليد اقطاعية مستقرة وثابتة، كما طور تقنيات زراعية فعالة.

وهكذا تضاعف سكان أوروبا بداية من عام 1000م ليصل عام 1600 إلى المائة مليون، في الوقت الذي لم تتمكن الشعوب الإسلامية من الوصول للمستوى ذاته، نتيجة لعوائق طبيعية مثل قساوة المحيط الطبيعي وندرة الأمطار والتصحر، ولم ينم عدد سكان المحيط الإسلامي إلا بتأثير الثورة الصناعية في نهاية القرن التاسع عشر.

ولم يكن من المستغرب حسب ساشس ان تسيطر الدولة العثمانية (أي المناطق الرطبة الخصبة) على الصحراء العربية القحلة. وكما أن المسلمين غلبوا ديمغرافياً، هزموا جغرافياً كذلك، باكتشاف فاسكو دغاما الطريق البحرية الرابطة بين أوروبا وآسيا، ففقدت الدول المسلمة السيطرة على تجارة المحيط الهندي تحت وطأة التفوق البحري الأوروبي. وفي مطلع القرن المنصرم، عندما كانت الخلافة العثمانية تلفظ أنفاسها الأخيرة، كانت أوروبا عندئذ تمتلك الفحم، والقوة المائية، والخشب، ومعادن الحديد، بينما لم تكن الدول الإسلامية تحظى إلا بالقليل من الأدوات الأساسية التي يقتضيها التصنيع.

وعندما اكتشفت الثروات البترولية في مناطق متعددة من العالم الإسلامي، كانت الدول الأوروبية قد احتلت المجال الإسلامي المفكك، وبالتالي منعت البلدان الإسلامية من الاستفادة من ثرواتها التي غدت عصب الآلية الصناعية الجديدة.

ومع الدخول لعهود الاستقلال والتحرر، اختارت أغلب البلدان العربية الإسلامية، حسب الكاتب، خيارات تنموية خاطئة ومدمرة، بإيحاء من الشعارات الثورية ذات المنبع الاشتراكي، وهي خيارات تفهم لدواع سياسية وآيديولوجية، تبنتها تلك البلدان تحت ضغط الأزمات الاقتصادية الخانقة. وعوضتها بإصلاحات اقتصادية ليبرالية على النموذج الأمريكي والأوروبي.

لقد ولدت هذه الوضعية حسب الكاتب، وهمين كبيرين: وهم النخبة الغربية التي تنظر للمسلمين كأمة مكتوب عليها التخلف عاجزة عن تحديث أنظمتها الفكرية والمؤسسية لأسباب عقدية وثقافية عميقة، ووهم الأصولية الإسلامية التي ترى الحل في تطهير الدين والثقافة الإسلامية من شوائب التغريب، والرجوع إلى عهد ازدهار الأمة دون اعتبار المستجدات التاريخية الهائلة التي غيرت المعمورة. ويخلص الكاتب إلى أن حل هذه المعضلة، يكون بإعادة التفكير في الحدود القائمة بين العالمين الإسلامي والمسيحي، بصفتها ليست تخوماً عسكرية وإنما حدود مفتوحة. ويكون ذلك بعدم اختزال هذا العالم الواسع في الحزام البترولي الضيّق، وإنما بلورة أواصر فكرية وتجارية ومجتمعية بين كبريات المدن الإسلامية التي لا تدخل حالياً في الشبكة التجارية العالمية والمراكز الأوروبية الأكثر تطوراً.

فالسياسة التجارية الأمريكية والأوروبية يجب أن تتطور في اتجاه ادماج الأقطار المسلمة في المنظومة الاقتصادية الدولية، سواء بقبول بعضها (كتركيا) في الاتحاد الأوروبي، وعقد اتفاقات شراكة فعالة مع البلدان المتوسطية الجنوبية، وتكثيف التبادل والحوار بين مكونات المجتمع المدني في الفضاءين، لاحتواء إرث الصدام والصراع.

أردنا تلخيص مقالة ساشس المهمة، باعتبارها تقدم أطروحة متميزة عن السيل العرم من الكتابات السيارة التي تنحو في الغالب إلى تكرير عبارات الصراع الثقافي وصدام الحضارات، منذ أن تحولت نظرية هانتغتون المشهورة إلى أداة سحرية لتفكيك إطار العلاقات بين العالمين الإسلامي والغربي.

وقد يكون في أطروحة ساشس بعض التبسيط المخل، بيد أن طرافتها لا غبار عليها، ولعلها تفسر جوانب من إشكال التراجع الإسلامي وتفوق الغرب المسيحي مع ولوج أوروبا عصور النهضة ثم التحديث.

وكان صديقنا النابه المفكر البحريني المرموق محمد جابر الأنصاري، قد ذهب في كتبه التي صدرت على امتداد العقد الماضي إلى إعطاء العامل الجغرافي دوراً رئيسياً في تفسير التراجع العربي واخفاق مشاريع النهوض والتحديث، منطلقاً من ظاهرة الانقطاع الجغرافي المميزة للمجال العربي، حيث تفصل الحواجز الصحراوية بين مراكز التمدن وتحول دون استقرار واستمرارية الدول التي غالباً ما تقوم وتضمحل على يد الغزوات البدوية الصحراوية، كما تفطن ابن خلدون من قبل.

ليس من همنا افاضة القول في مدى تأثير هذا العامل الايكولوجي والجغرافي في احداث التاريخ العربي الإسلامي القريب والبعيد، وانما حسبنا الإشارة إلى أن العوامل الفكرية والعقدية ليست دوماً حاجزاً بين الثقافتين العربية الإسلامية والمسيحية الغربية، فلطالما تعايشتا وامتزجتا وطورتا تقاليد معرفية مشتركة نادراً ما تحظى بدراسة وتأمل الباحثين المختصين، أما الصدام أو الصراع فغالباً ما تكون دوافعه جيواستراتيجية، حتى ولو تدثر بدثار عقدي برّاق، كما هو شأن الحرب الجديدة ضد الإرهاب.