المرجعية الشيعية بعد رحيل الشيرازي

TT

برحيل المرجع الشيعي آية الله السيد محمد الشيرازي، أقفلت المرجعية الشيعية عن آخر شخصية في جيل المراجع الكبار، اصحاب ما يمكن أن يعرف بالمرجعيات العليا أو العالمية وأصحاب المدارس التجديدية.

ويخلف الشيرازي في زعامة المرجعية مجموعة من الأسماء التي تدور في الغالب في فلك احدى ثلاث مدارس:

المدرسة النجفية التي تزعمها حتى وفاته الامام أبو القاسم الخوئي، وخلفه مجموعة من الفقهاء الذين لا يحيدون عن الاتجاه الفلسفي والفقهي له أبرزهم المرجع العراقي آية الله السيد علي السيستاني، كما ينتمي مجموعة من الفقهاء الايرانيين لهذه المدرسة بينهم الميرزا جواد التبريزي، وتقتصر هذه المدرسة على تبليغ أحكام الاسلام دون اعطاء الفقيه دوراً قيادياً في الحياة العامة وخاصة فيما يتعلق بالأمور السياسية، باستثناء الفترة القصيرة التي قاد فيها أحد أجنحة هذه المدرسة الراحل السيد محمد باقر الصدر والذي قتل في أحد السجون العراقية في العام 1980. المدرسة الثانية هي المدرسة الايرانية الثورية، التي قادها الامام الراحل الخميني، ويترأسها اليوم المرشد السيد علي خامنئي، وتجد لها مجموعة من الأتباع من طبقة الفقهاء لكن مدى مرجعيتها في الساحة الشيعية بدأ بالانحسار كثيراً بعد رحيل الامام الخميني، وحتى داخل ايران فان طبقة الفقهاء مثل الشيخ ناصر مكارم الشيرازي، والشيخ حسين علي منتظري، والحائري، والوحيد، وغيرهم تلاقي قبولاً مرجعياً منافساً لمرجعية المرشد، بالرغم من أن الجميع يمثلون تقريباً نفس الأسس النظرية لمدرسة الخميني وخاصة بالنسبة لولاية الفقيه، مع اختلافات تفصيلية.

المدرسة الثالثة هي المدرسة الكربلائية التي أسسها المرجع الشيرازي، واعتمدت على زخم هائل من الأفكار والنظريات وبرامج العمل التي بثها الشيرازي بين أتباعه الذين انتشروا في العديد من الدول الاسلامية وخاصة دول الخليج، وقد عاش الشيرازي الذي رحل عن 75 عاماً في الكويت نحو عشر سنوات، وابتنى فيها حوزة علمية، وكان الشيرازي حفيد اثنين من قادة ثورات الشيعة «ثورة التنباك في ايران، وثورة العشرين في العراق» معارضاً صلباً لنظام الحكم في العراق، وتميزت حركته بكثافة الأنشطة الثقافية والفكرية وهو شخصياً ألف أكثر من ألف كتاب ومصنف بينها أكبر موسوعة فقهية شيعية وصلت لنحو 150 مجلداً، كما نظّر مبكراً لتأسيس التجمعات والمؤسسات، وكانت له مواقف سياسية بارزة، حكم عليه على أثرها بالاعدام في العراق، واغتيل أخوه السيد حسن الشيرازي في بيروت بداية الثمانينات، وناصر الثورة الايرانية في بدايتها لكنه اختلف معها في السنوات الأخيرة من الحرب العراقية الايرانية، واصطدم معها عندما دعا لاطلاق الحريات العامة وتدعيم النظام الديمقراطي الاسلامي.

أما نظرياته التجديدية، فهي دعوته لتأسيس حكومة اسلامية عالمية، مع التفصيل في توضيح الوسائل، ودعوته لبناء المؤسسات، والانفتاح، والحريات، وكانت أهم نظرياته التي لاقت جدلاً نظرية اللاعنف، وقد دعا فيها الى استئصال جذور العنف باعتباره مخالفاً للأصول العامة للتشريع الاسلامي والعمل السلمي وقد كان متأثراً الى حد ما بشخصية الزعيم الهندي المهاتما غاندي.

ولم تلاقِ نظريته «شورى المراجع» البديل الفكري لنظرية ولاية الفقيه ترحيباً لدى الزعامة الايرانية لأنها تعارض مبدأً مهماً من مبادئ ولاية الفقيه التي يدعو لها الامام الخميني، وشورى الفقهاء، تعني الاعتماد في ولاية الأمر والتصدي لأمور الأمة على شورى المراجع وليس على الفقيه الفرد. وقد طرح نظريته في عدة أبحاث وكتب أبرزها «السبيل الى انهاض المسلمين» و«فقه السياسة» و«الصياغة الجديدة» وغيرها، بحيث اعتبرها الشكل الوحيد من أشكال الحكومة الاسلامية في عصر الغيبة. وتشير هذه النظرية الى أن «جميع مراجع التقليد بدون استثناء هم أعضاء شورى المراجع ولهم الولاية الشوروية في ممارسة الحكومة الاسلامية في عصر الغيبة». وعلى هذا الاساس فنظرية شورى المراجع تعني «ادارة العالم الاسلامي، أو على الاقل العالم الشيعي بواسطة جميع الفقهاء الجامعين للشرائط الذين أصبحوا مراجع تقليد بعد اقبال الناس عليهم وذلك لأن الفقهاء عينوا من قبل الشارع للولاية وحازوا على رضا الناس ومن هنا فانه لا يحق لأي مرجع أن يسلب حق الولاية من مرجع آخر» أما عضوية المجلس فهي لجميع الفقهاء مع امكانية انتخاب مجلس من بين الفقهاء، وطريقة اتخاذ القرار بالتصويت، وعلى اساس الأغلبية، أما وجود المذاهب الاسلامية غير الشيعية، فقد عالجها الشيرازي بوجود مجلسين، واحد لجميع فقهاء المسلمين يناقش القضايا العامة المشتركة، ومجلس آخر لكل فريق من المذاهب لمناقشة قضاياه المستقلة. أما قضايا الناس الفردية فيرجعون فيها لمراجعهم.

وبعد رحيل الشيرازي، افتقدت المدرسة الكربلائية، التي خاضت صراعات دامية مع منافستها في النجف انعكست على علاقة الأتباع في دول الخليج وايران، افتقدت قطباً بارزاً فيها. لتتوزع الزعامة داخل البيت الشيرازي بين جناحين الأول يمثله الأخ الشقيق للسيد محمد وهو السيد صادق الشيرازي الذي يبلغ من العمر نحو ستين عاماً، ويضم أبناء المرجع الراحل وكبار الوكلاء، والجناح الآخر يمثله السيد محمد تقي المدرسي الزعيم السياسي لمنـظمة العمل الاسلامي في العراق، والمفكر المعروف.

ومن المرجح أن يستقطب الشيرازي الأخ العدد الأكبر من أتباع أخيه الذين يستشعرون الحاجة لوجود مظلة فكرية منسجمة مع قناعاتهم، في حين تبقى مرجعية المدرسي الناشئة بانتظار أن تتبلور أو أن تجد الظرف الملائم لانطلاقتها، مع العلم أن السيد صادق الشيرازي لا يتطابق بالضرورة مع كافة الأفكار التي يتبناها أخوه الراحل، فلم يعرف عنه الاشتغال بأي عمل سياسي، وهو الى حد ما مرجع تقليدي داخل الوسط الشيعي ربما لا يفترق كثيراً عن المرجعيات النجفية الراهنة. وثمة اتجاه آخر داخل ورثة المرجعية الشيرازية اتجه مباشرة للتحالف مع مرجعية السيستاني في العراق، وهو اتجاه يدعو لانفتاح أتباع الشيرازي على الأفق الشيعي وعدم التقوقع داخل كانتونات مرجعية والتماهي في محيطهم العام.

* المرجع والأمة

* كانت هناك محاولات لتأسيس علاقة تراتبية بين الفقيه والأمة، وبين الفقيه والدولة، بعد أن كان الفقيه لا ولاية له الا بالأحكام الفرعية، في حين اجتهد فقهاء سابقون مثل الشيخ علي بن عبد العالي المعروف بالمحقق الكركي المتوفى سنة 940 هـ، والذي عاش في العصر الصفوي، في التنظير لدور الفقهاء في الحياة العامة، باعتبارهم يمثلون «النيابة» عن الرسول والأئمة من بعده، وبعد اكثر من قرن على أطروحة الكركي جاء العلامة الشيخ أحمد النراقي فقيه العصر القاجاري (المتوفى سنة 1248هـ) ليفصل في مسألة ولاية الفقيه وليجعل منها مسألة فقهية مستقلة. لكن حتى ذلك الوقت كان الجدل رغم محدوديته يدور بين سلطتين، الفقهاء والحكومات السياسية، وخاصة في العهدين القاجاري والصفوي، والذي اشتد ابان الصراع السياسي الذي واكب حركتي «المشروطة» و«المستبدة» اللتين تصادمتا في شكل العلاقة ونظام الحكم ودور الأمة فيه وبرز في تلك الفترة زعيما هذين القطبين العلامة الميرزا محمد حسين النائيني صاحب كتاب «تنبيه الأمة وتنزيه الملة»، ( المتوفى سنة 1355هـ) والشيخ فضل الله النوري (ت1327هـ).

بيد أن تدعيم النظام المرجعي الشيعي بصورته الراهنة التي تفرض نمطاً من العلاقة العبادية بين «المُقّلِد» وهو الأمة، وبين «المُقَّلَد» وهو الفقيه لم تتبلور بصورتها الراهنة الا على يد الشيخ مرتضى الأنصاري الذي عاش في العراق منتصف القرن الثالث عشر الهجري، وكان الشيخ الأنصاري نفسه قد قدم أطروحات اتسمت بالأهمية وأسست لمناهج عقلية وفقهية في الفقه الشيعي. أبرز تلك الأطروحات نظرية ولاية الفقيه التي قدمها في كتاب البيع، وفي الميدان المرجعي أفتى الأنصاري ببطلان عمل الشيعي الذي لا يقلد الفقيه أو يحتاط. وما زال كتابه «المكاسب» أهم الكتب التي يدرسها طلاب العلوم الشرعية في الحوزات الدينية في مرحلة السطوح.

وعلى الفور جاء بعده تلميذه السيد كاظم اليزدي صاحب كتاب «العروة الوثقى» بداية هذا القرن الهجري ليشرح وينظر لفكرة أستاذه الأنصاري، وقد بحث بالتفصيل في باب التقليد والاجتهاد علاقة المرجع بالمقلد، ووجوب اتباعه في الأحكام العبادية، وكان كتابه «العروة الوثقى» الأساس الموضوعي لأبواب ومواضيع الفقه التفصيلية التي لجأ اليها الفقهاء بعده لتقديم أطروحاتهم وآرائهم الفقهية، وبالتالي فقد التزم أتباع المدرسة الأصولية في الفقه الشيعي بهذه العلاقة ونسجوا على منوالها أحكاماً وقوانين تبطل عمل الأتباع بدون الرجوع الى مرجع التقليد.

وتستند هذه النظرية الى مرجعين، أولهما نص شرعي يُنسب للامام الثاني عشر المهدي، يأمر أتباعه بالرجوع في «الحوادث الواقعة لرواة حديثنا»، والى مرجع عقلي يقتضي «عودة الجاهل الى العالم»، لكن الفقهاء وتحت الحاح الظروف الموضوعية والسياسية وجدوا الأمة مكشوفة بدون قيادة تتولى تسيير شؤونها، خاصة بعد انهيار المرجعيات السياسية الشيعية، فنشأت نتيجة ذلك مجموعة من الأفكار والتصورات تقضي بتشييد نمط من العلاقة القيادية بين المراجع والمقلدين، واستفاد الفقهاء من مجموعة من الأحكام لتأسيس نظام سلطوي «أبوي» بينهم وبين قواعدهم، وخاصة تدفق الأموال بنظام «الخمس» الذي يؤديه الأتباع تعبداً للمرجع، والذي يحافظ على استقلالية المؤسسة المرجعية وامتداد نفوذها.

وبالتالي فقد وجدت المرجعيات وبفضل التحالفات التي تحصلت عليها من خلال دورها الجديد، وكونها احد أهم مراكز القوى داخل الطائفة، المجال مفتوحاً لتدعيم سلطتها عبر سلسلة من الوكلاء من جهة واستقطاب طبقات فاعلة مثل التجار والحرفيين والمثقفين.

بيد أن تاريخ المرجعية الشيعية لم يسر على سياق واحد، فقد برز داخله ونتيجة الموقف من الصراعات السياسية مدارس فكرية متباينة، فثمة مدرسة تقليدية كانت ابرز تلك المدارس أدارت وجهها عن جميع الصراعات السياسية التي شهدتها المجتمعات الشيعية أو المجتمعات الاسلامية المحيطة بها، وتفرغت تقريباً لبناء نظام ديني توجيهي يشرف على بناء المدارس ومراكز العبادة وارسال المبلغين والمرشدين وطبع الكتب التراثية، والابحار عميقاً في التاريخ والنص الشيعيين.

في نفس الوقت برزت مرجعيات استطاعت بنجاح أن تشق منهجاً جديداً في تاريخ التشيع وأن تقدم أطروحات عملية لمشكلات معاصرة، أو أن تفتح الباب أمام الفقه ليتحول الى عنصر متفاعل مع المجتمع، ومع الفقيه ليقترب من الهم المشترك لمقلديه، ولم يكن حظ هذه المرجعيات بالضرورة موفقاً، فطبقة المنتفعين والتجار كانت تحوط بالمرجعيات الأخرى لتعزز موقفها.

كانت المرجعية الشيعية نمطاً من أنماط تنظيم المجتمع، وفي حين توافق الأتباع على دورها وسلطتها وحدودها لانها كانت تلبي حاجة ملحة، في ظل انعدام الأطر التنظيمية الأخرى للمجتمع، لكن بعد انتصار الثورة الايرانية وبروز مؤسسات وأحزاب وتنظيمات ولجان ومشاريع تقلص الى حد كبير دور المرجع الكاريزمي، وتراجع كذلك دور الفقيه الفرد، لصالح مؤسسات ارتبطت بالمرجعية، لكن افتقدت الساحة الشيعية منظرين من طبقة الفقهاء للمشكلات والتحديات الراهنة، كالحداثة والديمقراطية والعولمة ودور المرأة والحاكمية والعلاقة مع الآخر وهكذا، في حين برز مفكرون شيعة ليسوا من هذه الطبقة ولم يحصلوا على مواقف بارزة في سلم المرجعية التقليدي، بينهم السيد محمد حسين فضل الله، والشيخ الراحل محمد مهدي شمس الدين، والسيد محمد تقي المدرسي، ومجموعة من الايرانيين كالشيخ محسن كديفر وغيره.

وبحسب التعاليم الدينية الفقهية فان الرجوع لأي مرجع للأخذ برأيه في مسائل العبادة يخضع لجملة من الشروط أهمها العدالة والحرية والأعلمية، والشرط الأخير يضيق فرص المراجع المحدثين الذين لم يتمرسوا في الحوزات العلمية ولم ينالوا درجات كافية من الشهادات بعلو الهامة في المجالات العلمية، ولذلك فقد برزت من جديد ونتيجة لذلك اجتهادات فقهية أبرزها امكان استبدال الأعلمية بالكفاءة، وهو رأي يحتاج بذاته لاجتهاد الأعلم حتى يمكن الركون اليه، حسبما يعترض بذلك المخلصون للنظام المرجعي بشكله الراهن.

لاشك أن وفاة الشيرازي كانت حدثاًَ مهماً في سياق النظام المرجعي الشيعي، وغيابه بالاضافة الى القطبين الآخرين الخميني والخوئي يفتح الباب أمام مرجعيات صغيرة ويقلص دور المرجع في الحياة العامة ليعيده من جديد لممارسة دوره في الفتيا والولاية على من لا ولي له كالأيتام والقصر والأوقاف، لكن التحدي يبرز أمام المفكرين الشيعة لاقتحام الأفق المعاصر لتقديم أفكار ونظريات تعالج المشكلات العصرية، بما يمكن من خلالها تأسيس نظام جديد لا يقوم على الولاء للمرجع الفرد، وانما وجود خيارات متعددة تتيح مزيداً من التفاعل بين المرجع والأمة.