سريالية الأناقة وقبلة الخراب

TT

ذهبت إلى وسط المدينة وإلى مركز (ابيكيندر) نيويورك مساء الجمعة. وذهبت أيضاً إلى الطابق الصفر.

كان هناك حفل خاص في الطابق الصفر مقتصر على الذين ظلوا يعملون فيه. كانت رافعة ساكنة تلقي بظلها على السماء ذات اللون القرمزي، وفي شارعي تشيرش وداي كانت هناك باقات جديدة من الورد الأحمر والزهور الزرقاء معلقة بسياج الاسلاك ترتجف تحت لسعات البرد القاسية. لقد انطفأت النيران أخيراً وبدا الحي اقل خراباً مما كان عليه حتى قبل شهر. لكن السخام ما زال يلسع العيون والجرح في الأفق ما زال يمزق القلب.

كتب و. ه. أودين في «عهد القلق» يقول «حدقت عبر النافذة صوب عالم آيل للسقوط».

كانت ميلسا ديلو مساعدة التمريض في مستشفى القديس فرنسيس في دير بارك بلونغ ايلاند هناك تلتقط صورة فوتوغرافية لصديقتها ايمي هانوفر المتدثرة بثياب كثيرة للوقاية من البرد أثناء زيارتها المكان بصحبة ديلو، وتبدو هانوفر وهي تستعد لأخذ صورة لها وظهرها يواجه الفراغ الخالي.

همهمت إيمي هانوفر قائلة «ان هذا يبعث على الحزن الشديد، انه عار».

بعد 11 سبتمبر (ايلول) كان هناك حديث وعظيّ كثير عن أن الامريكيين سيطالهم التغيير الى الابد ويجللهم النبل من جراء الفجيعة.

يجب ألا نكون بعد اليوم متعنتين أو متخمين أو خشني الطباع أو ماديين أو جوف أو مترفين.

سنعيد اكتشاف ما هو أولي ومشبع بالروح ونستبعد كل ما هو تافه ومتفسخ. ستتوارى الرغبة في الكماليات والحذلقة وسننعم بالدفء والبساطة.

لقد وضعت البدلات والملابس القديمة في خزانات الملابس واستبدل الطعام الفاخر بالمقانق والمعكرونة والجبن والساندويتشات.

في السنوات التي سبقت الهجمات كانت وحشية التسوق قد تحولت الى نوع من الاناقة. وفي فنادق سشراغر مثل موندريان في لوس انجليس تم اختيار التصميمات الحاذقة والموظفين المتحذّقين ليبثوا التوتر وسط الزبائن ويشعروهم بتخلف ازيائهم.

ان مسرحية «مساء السبت الحي» الهزليّة عن باعة يكسوهم السواد ويوجهون الإهانات إلى الزبائن في محلات جيفري في ضاحية تغليف اللحوم تصوّر نوع الحياكة السادية للتصميمات الأعلى شأواً.

لكن يفترض فينا أن نكون الآن في عصر الحقيقي بدلاً من الافتعالي، والدفء بدلاً من البرود والأصلي بدلاً من المضخم. لذلك علينا أن نتساءل عن محلات شركة برادا الشاسعة الجديدة التي تحتوي على ما قيمته اربعون مليون دولار والتي افتتحت للتو في موقع غير بعيد من الطابق صفر (القاعدة التحتية لمبنى مركز التجارة الدولي الذي هدته هجمات 11 سبتمبر ـ ايلول) واطلقت عليها الشركة اسم ـ نيويورك ابيكينترو ـ (مركز نيويورك) وصممه المهندس ريم كولهاس، هل هي مجرد أثر لطرقنا الشرهة أم هي استئناف لها؟

يتميز المكان بالفخامة. ومن أعلى قبته يتدلى من السقف على نحو يبعث على الخوف «صندوق متكلم»، عبارة عن جهاز مكبر للصوت تحت غطاء من القماش الداكن.

هناك أرائك محشوة بالجلي المستخدم في علاجات تقويم الاعضاء. وهناك شاشات عرض فيديو تلمع في كل مكان تبث عروض أزياء تابعة لشركة برادا (لا تستطيع الدخول اليها) وتعرض منافسات كأس أمريكا لليخوت التابع لشركة برادا (والذي لا تستطيع أن تدخل اليها) بالاضافة الى عروض لبشر جذابين بملابس للسباحة (لا تستطيع أن تحشر جسدك فيها).

ويعرض المكان، الشبيه بالمتحف، «انواعاً من البضائع الكماليّة الفريدة» مثل معاطف من الفرو الأبيض بسعر 13200 دولار وبنطالات رجالية من جلد التماسيح للرحلات بسعر 19 ألف دولار وفراءات سوداء وأغطية زينة مطعمة بالجلد بسعر 7400 دولار ومساند من جلود حملان منغولية بسعر 5100 دولار.

وتقف الغرف الجديدة المخصصة للتأكد مما اذا كانت مقاسات الملابس صحيحة خير شاهد على النرجسية القديمة فما أن تلج إلى إحداها وتضغط على زر حتى يغلق الباب على الفور بحيث يصعب على الزبائن الآخرين رؤيتك، وبوسعك أن تكبس على أزرار أخرى لترى نفسك بالملابس التي اخترتها تحت ضوء ساطع يشبه وضح النهار أو في ضوء المصابيح الكهربائية التي تضاء ليلاً. وهناك كاميرا تمكنك من رؤية ظهرك (إذا كانت لديك الشجاعة لأن ترى ذلك).

ولما كان هذا المكان قد صمم لنجوم السينما وليس لرجال الشرطة والاطفاء فإنه يوفر للنجوم مدخلاً خاصاً لكبار الزوار بحيث لا يختلطون بالرجرجة والدهماء كما يوفر لهم غرفهم الخاصة لتجريب الملابس التي وصفها أحد نقاد الهندسة المعمارية في صحيفة نيويورك تايمز بـ«فجوات الخصوصيّة».

وربما يكون هذا المحل التجاري بمثابة قبلة سريالية لمنهاتن إلا أن القبلة الحقيقية ستكون دائماً وبغض النظر عن أيّ ضرب من ضروب الزخرف والبريق تلك الارض الخالية التي كان يقوم عليها مركز التجارة الدولي الذي يظل شبحه يلاحقنا على الدوام.

(خدمة نيويورك تايمز، خاص بـ«الشرق الأوسط»).