العالم كما يراه كولن باول (1)

TT

في ليلة الخامس عشر من اكتوبر (تشرين الاول) الماضي، وجد كولن باول نفسه داخل مقر اقامة السفير الاميركي في اسلام اباد، المحصن على نحو شديد، يتناول طعام الغداء مع من لا يرجح ان يكون واحدا من افضل اصدقائه، الرئيس الباكستاني. فقبل اشهر معدودة على وجه التحديد، عندما بدأت ادارة بوش برسم لوحتها التي تضم الاصدقاء والاعداء، ارسل مساعد باول في مسعى لكسب ود الهند، البلد الديمقراطي الذي يحتمل ان يكون موازنا للصين، وباعتبارها بلدا اثيرا في جنوب آسيا، بالنسبة لاميركا.

اما باكستان فقد جرى التغاضي عنها باعتبارها بلدا منبوذا، ومهدا للارهاب. غير ان الحرب غيرت كل شيء، وبات الجنرال مشرف، الآن، شريكا لنا ضد الارهابيين في افغانستان المجاورة. وكان هذا اول لقاء لباول، وجها لوجه، مع رجل باكستان القوي، وقد خلف ما اكتشفه انطباعا مؤثرا في نفسه. فمشرف، شأن باول نفسه، رجل عسكري براغماتي، مفعم بالثقة بالنفس، ومتحرر من التكلف في الحديث، سواء كان عن التكتيك العسكري او الاستراتيجية السياسية، وهو رجل قيض له ان يتقدم في التفكير ثلاث او اربع خطوات.

وكان باول في اسلام آباد ليطمئن الباكستانيين بأن الولايات المتحدة لن تتخلى عن باكستان، كما فعلت في الماضي، ما ان تضع الحرب اوزارها، وليعرض بعض المكافآت الملموسة، وبينها انهاء العقوبات المفروضة على باكستان جراء قيامها باختبار نووي، والمساعدة على اعادة جدولة الديون التي تثقل كاهل البلاد.

* مقامرة مشرف

* وكانت مقامرة بالنسبة لمشرف ان يجند طاقاته الى جانب اميركا ضد كراهية اسلامية فيروسية تتوالد، بين اماكن اخرى، في باكستان. كانت الشوارع تغلي باحتجاجات غاضبة. وكاجراء احترازي ضد صاروخ ضال يطلق من على الكتف، كان باول قد انهى رحلة طيرانه التي استغرقت 17 ساعة، وقد اطفأت طائرته انوارها وهبطت هبوطا جانبيا في مطار اسلام اباد. ولاسباب امنية لم تدون فقرة الغداء في مواعيد برنامج الزيارة الذي سلم الى المرافقين الصحافيين.

ولم يكن حرس المخابرات السرية المرافقون وحدهم من شعروا بالقلق والتوتر بشأن الزيارة. فقد رن الهاتف المحمول مرتين، بينما كان الجنرالان، اللذان يرتديان بدلتي العمل الرسميتين، يتداولان على مائدة الطعام. المرة الاولى في جيب رئىس المخابرات الباكستانية، والثانية في جيب رئيس مركز المخابرات المركزية الاميركية، وكانت الانباء تقول بأن الهند اطلقت نيران مدفعيتها في منطقة كشمير الحدودية المتنازع عليها. وكانت الهند تشعر، عندئذ، بأنها منبوذة. وقال أحد المشاركين في حفل غداء اسلام اباد «انه اسلوب للقول: وماذا عنا؟». هكذا هو العالم الجديد، النفعي، السريع التأثر للسياسة الخارجية الاميركية التي يقودها كولن باول. وفي الوقت الحالي على الاقل، حيث يقوم بتوجيه هذه السياسة، فإن جاذبية شخصيته، ومهاراته التي تسحر الحلفاء، وتجربته في الحرب، كلها وضعت موضع تبجيل ارتباطا بالهجمات الارهابية يوم الحادي عشر من سبتمبر (ايلول).

وعندما اجريت مقابلة مع باول في وقت اكثر براءة، وكان ذلك قبل اربعة ايام من الهجوم الانتحاري بالطائرات المختطفة على مركز التجارة العالمي والبنتاجون، طلبت منه ان يصف رؤيته للعالم (يجمع باول قائمة بالحكم والمبادئ الاساسية التي يحبها، يأتي فيها «امتلاك رؤية» في المرتبة الحادية عشرة). وكان الجواب الذي قدمه واضحا، وغير مثير للجدل بكل معنى الكلمة، حول اميركا يمكن ان تقود بقوة المثال ـ وهي فكرة تعبر عن الثناء المتدفق العاطفة لما وصفه رونالد ريجان بـ «مدينة متألقة على سفح تل». وباستثناء التأكيد على الاسواق الحرة بشكل اثقل نوعا ما مما يمكن ان يسمعه المرء من ادارة ديمقراطية، فقد كان ذلك تعبيرا لا حزبيا مكررا، يعكس الروح المعنوية، وبدا انه يؤكد ما يقوله كل من عمل مع باول حول كونه حلال مشاكل وليس شخصا حالما.

وبعد ستة اسابيع، وعندما كنا نتحدث، ونحن نحتسي الكوكاكولا، على متن طائرته العائدة الى البلاد من جولة عبر جنوب آسيا، كان العالم قد طرح مشكلة كبرى، وكان هو في الموقع الملائم له. فالحروب، بما فيها هذه «الحرب»، تحرر المرء من البحث عن مبدأ منظم عظيم، وتوجه اهتمامه الى المهمة العملية للاستراتيجية والتكتيكات. وهكذا كان باول يشكل العالم، ويحشد تحالفا من الاصدقاء القدامى، والاصدقاء المخلصين في اوقات اليسر، والمقيمين السابقين الذين تنطوي مواقفهم على الحياد، معبئا دعما ماديا ومعنويا للحملة ضد الارهاب. وهذه المرة عندما سألت باول عن القضية التي تتطلب منه اهتماما اكبر في العالم الذي يعاد ترتيبه، انغمر في مناقشة الاستقرار المشكوك فيه لباكستان التي تملك السلاح النووي، وهي بلاد في منحدر التل البعيد الذي تقع فيه مدينة ريجان المتألقة.

لقد خلقت الحملة ضد الارهاب نمطا من عالم ادارة الازمات تزدهر فيه طاقات باول. وقبل الحادي عشر من سبتمبر كان باول الامل المستوحد للحلفاء الاوروبيين، وسياسيي الوسط في الكونجرس، واوساط الاعمال العالمية، ومعظم معلقي وسائل الاعلام الذين يقفون على يسار الـ «ويكلي ستاندارد»، والذين صوروه باعتباره الراشد في حلبة متصارعين من المتزمتين اخلاقيا، والاوائل المتفوقين في اميركا. وقد قال أحد الديمقراطيين البارزين قبل فترة قصيرة من وقوع الهجمات الارهابية انه «الملك الاعور في بلد العميان». غير انه منذ بزوغ قضية دولية مشتركة ظلت ادارة بوش تبدو اكثر شبها بكولن باول منها بأي شخص آخر. فالارهابيون جردوا، حتى الآن، آيديولوجيي القوة العظمى الوحيدة داخل الحزب الجمهوري من اسلحتهم، وخلقوا احساسا بهدف مشترك عالمي تبدو فيه الثقة بين البلدان المتنافسة اكثر معقولية بقليل. والطريقة التي يعبر بها باول عن هذا الامر هي ان الهجوم على اميركا «ضغط على زر اعادة ترتيب» السياسة الخارجية. فهو يقول ان العلاقات الاميركية المتوترة مع روسيا والصين بل وحتى في الشرق الاوسط العسير المعالجة، تبدو الآن اكثر استعدادا لتحقيق اختراقات. وهو يؤكد ان اميركا لم تتحرك فقط، بعد طول انتظار الى ما هو ابعد من الحرب الباردة وانما وثبت ايضا الى ما يتجاوز «فترة ما بعد الحرب الباردة»، الى البحث عن هدف في عالم يخلو من مركز جاذبية.

ومع الحاق هزيمة منكرة بطالبان واخراجها من كابل والمدن الاخرى، وفي الاسبوع ذاته اتخاذ خطوات باتجاه اتفاق ستراتيجي جديد مع روسيا، فإن تعاليم باول الجديدة حول الفرصة الدبلوماسية، تبدو معقولة الى حد كبير. اما ان تتجاوز احباطات فرض الاستقرار في افغانستان ـ او الاختيار النهائي للمصالح الذاتية المتنافسة لحلفائنا ـ فذلك امر لا بد من الانتظار لرؤيته. ويمكن للمرء ان يجد كثيرين داخل الادارة وخارجها ممن يعتقدون ان وجهة نظر باول ساذجة او لا اخلاقية في عالم محفوف بالمخاطر. غير ان هناك رجلا واحدا يبدو مشاركا باول احساسه الجديد بالفرصة، ومتحدثا عن العالم باللهجة ذاتها لبشائر النجاح المتألق، وهو الرئيس جورج بوش.

* مائدة الرئيس

* وفي يوم الحادي عشر من سبتمبر كان باول يجلس على مائدة الفطور في ليما مع رئيس بيرو، اليخاندور توليدو، عندما ناوله أحد المساعدين ملاحظة تقول ان طائرة ضربت مركز التجارة العالمي، فتوجه بالكلام الى مضيفه: «يا الهي، لقد حدث شيء مروع». واستغرق الوقت عشر ساعات قبل ان يصل الى الرئيس بوش، الذي كان ينقل من مكان الى آخر في البلاد على يد رجال المخابرات السرية متوتري الاعصاب.

وحتى ذلك الوقت انعكست الحكمة التقليدية حول باول في غلاف مجلة «تايم» الصادرة اواخر الصيف، والذي حمل سؤال: «كولن باول، اين ذهبت؟». كان وزير الخارجية الجديد قد واجه سلسلة من المصاعب غير الخطيرة بشأن كوريا الشمالية واتفاقية كيوتو حول التسخين الارضي، والتعهد الاميركي بخصوص قوات حفظ السلام في البلقان. وفضلا عن ذلك فقد بدا بعيدا عن الانظار، مما يعني العجز في واشنطن. وقال بعد يومين من ظهور عدد المجلة: «كانت لدينا عقباتنا الصغيرة».

* نفوذ باول

* غير انه، حتى قبل ذلك الحين، كان نفوذ باول يتزايد على نحو مطرد. فقد توصل، عبر مفاوضات غير حادة، الى انهاء اول ازمة دولية تواجهها الادارة، وهي ازمة اصطدام طائرة التجسس إي بي 3 مع مقاتلة صينية، مما فتح الطريق امام علاقة اقل حساسية وتعقيدا مع الصين، يتبناها الآن الرئيس بوش. وجدد التأكيد للاوروبيين بأنه على الرغم مما جرى خلال حملة بوش من حديث يقلل من شأن اعادة البناء في البوسنة وكوسوفو، فإن الاميركيين الذين ذهبوا الى هناك مع الحلفاء لن يخرجوا بدونهم. وقد تخلى بوش الى حد ما عن الارتياب بروسيا، وهو ما جرى في اثناء حملته. وعلى الرغم من ازدراء الادارة لدبلوماسية بيل كلينتون الشخصية في الشرق الاوسط، فقد وافق الرئىس في اجتماع لمجلس الامن القومي، جرى تسريب ما توصل اليه لاحقا على نحو بارع، على تجديد الدعم الامبركي لاقامة دولة فلسطينية والدعوة الى دور اميركي اكثر فاعلية في المنطقة. وفي كل هذا كان الرئيس يتبع قدرات وزير خارجيته.

وفي يوم الجمعة، الرابع عشر من سبتمبر، عندما توجه باول بطائرة هليكوبتر الى كامب ديفيد لغداء عمل مع نائب الرئيس ديك تشيني، ووزير الدفاع رامسفيلد، ومستشارة الامن القومي كوندوليزا رايس، كانت الاستعدادات الحاسمة للحرب قد بدأت. وكان مساعد باول الموثوق ريتشارد ارميتاج قد دعا رئيس المخابرات الباكستانية لوضع اسس اقتحام عسكري لافغانستان. وكان ارميتاج، الضابط المتمرس في فيتنام، ذو البنية القوية، قد تقلد وساما من الحكومة الباكستانية لمساعدته المتمردين الافغان المسلحين في مقاومتهم الهيمنة السوفياتية. وقد سلم في الوقت الحالي خطة انذار من سبع نقاط جوهرها: هل أنتم معنا او ضدنا، وتدعو الباكستانيين الى اغلاق حدودهم مع افغانستان، وفتح ملفات استخباراتهم، وتوفير السبل لوصول القوات الاميركية. وقد غادر الدبلوماسي الى باكستان ليعود في اليوم التالي وهو يحمل اتفاق مشرف التام في الرأي، وهو ما جرى الحديث عنه في مكالمة هاتفية بين باول والزعيم الباكستاني. وكانت عملية القصف ما تزال على بعد ثلاثة اسابيع، غير ان المجموعة التي اجتمعت في كامب ديفيد سرعان ما توصلت الى ان رد الفعل الاميركي سيكون عسكريا وانه يجب ان يكون دقيقا ومنهجيا.

«انه دائما ضغط العودة وتوجيه ضربة مباشرة في الحال»، هكذا ابلغني باول، الذي يحب الاستشهاد بتوسيديدس بشأن المزية العسكرية للضربات الرادعة، في الاسبوع التالي. ولكنه واصل الحديث مشيرا الى ان السؤال هو «من هو ذلك الشخص الذي توجه اليه الضربة، اولا، وكيف يمكن القيام بها بحيث انك تضرب ذلك الشخص او المجموعة ولا تقوم بالضرب من اجل الضرب».

وفي ذلك الغداء ابقى الاربعة الحديث خفيفا، غير انه في صباح اليوم التالي انضم اليهم الرئيس، وكذلك جورج تينيت مدير المخابرات المركزية ومجموعة من المساعدين في قاعة الاجتماعات في كامب ديفيد. وخلال اربع ساعات من البحث درسوا الخيارات والمخاطر وكيفية جعل الحرب المعلنة اكثر من مجرد كلام بليغ. لقد بحثوا التجربة السوفياتية في افغانستان، ونشوء طالبان، والمدى الذي يمكن به الثقة بباكستان. وتحدثوا عما اذا كان ينبغي للمرحلة الاولى من الحرب ان تمتد الى ما هو ابعد من القاعدة لتستهدف الجماعات الارهابية التي تتمتع بدعم شعبي في الشرق الاوسط مثل حماس وحزب الله، وعما اذا كان ينبغي ان تشمل دولا راعية للارهاب مثل سورية وايران والعراق خصوصا. وقال أحد المشاركين ان «ما نوقش، من زاويا مختلفة، في كامب ديفيد هو ان هناك كثيرا من الدول الاخرى في العالم تدعم الارهاب. فما الذي سنفعله بشأن هذه الدول؟ من الواضح ان هناك القاعدة، وهناك افغانستان، ولكننا لا نريد ان نوجه رسالة تقول ان هناك ارهابا جيدا وارهابا سيئا، فأنتم تعرفون انه لا يمكن للمرء ان يكون ضد القاعدة ويدعم في الوقت نفسه حزب الله». وأوضح باول انه لم يتوفر دليل يربط العراق بهجمات الحادي عشر من سبتمبر. وقال آخرون ان ذلك لا صلة له بالموضوع، وان الادارة جاءت الى الحكم وقد وعدت بأن تفعل ما هو اكثر لانهاء حكم صدام حسين. وقال باول ان التحالف لن يستمر اذا ما استهدفت الولايات المتحدة العراق، وبدون التحالف لا يمكن ان يكون هناك ايقاف لتمويل الارهابيين، ولا مشاركة في المعلومات الاستخباراتية، ولا عمليات اعتقال دولية. وبعد استراحة غداء، وبعد ان طلب بوش من كبار مسؤولي حكومته ان يلخصوا وجهات نظرهم كان هناك اتفاق عام على ان افغانستان والقاعدة تكفيان في المرحلة الاولى.

* قرار الرئيس

* وفي اليوم التالي، في البيت الابيض، دعا الرئيس رايس وقال انه اتخذ قراره. سيترك العراق للمستقبل. وبعد ايام قليلة ابلغني باول ان «العراق سيبقى الى ما بعد هذه الحملة. العراق لن ينتقل الى اي مكان آخر. انه في حالة ضعيفة جدا. انه يمارس اشياء لا نوافق عليها. سنستمر في احتوائه. ولكن ليس هناك من حاجة في الواقع لوضع العراق على رأس القائمة في الوقت الحالي، ما لم يتصاعد دخان المدافع حقا». وأضاف انه «في ما يتعلق بما يدعى احيانا الاطاحة بصدام لم أر خطة ستطيح به. انها مجرد افكار تأتي من جهات مختلفة تدعو الى القصف». وقال ان القاء وابل القنابل على العراق لن يكون مؤثرا الآن اكثر مما فعله الرئيس كلينتون في ديسمبر (كانون الاول) عام 1998.. «ماذا كانت نتيجة القصف؟ انه ما يزال هناك باستثناء انك وضعته في صدر الصفحات الاولى ليقول: انا هنا! لقد انفقتم بلايين الدولارات. ولهذا فاننا سننظر الى هذا الامر دون صعوبة او تردد، وفي سياق تعاقبه. سيظل هناك، لسوء الحظ اسبوعا، شهرا، او شهرين من الآن».

وبالنسبة لنقاد باول الجمهوريين داخل الادارة وخارجها، يبقى العراق الاختيار المزعج حول ما اذا كان ينبغي شن هذه الحرب، وهي معركة مؤجلة اكثر منها محلولة. وعندما يقتنع الرئيس ان عليه مهاجمة العراق، فإن باول سيلتزم باخلاص بهذه السياسة، ولكنه لا يرى ذلك حتى الآن.

وعلى متن الطائرة التي عادت بنا من آسيا الشهر الماضي، سألته عما اذا كان هناك اي شيء جعله يغير رأيه بشأن استهداف العراق، فأجاب بالنفي.

وسألت عن المهمة التي قام بها جيمس وولسي، المدير السابق لوكالة المخابرات المركزية، لجمع ادلة على دور عراقي في الهجوم على برجي مركز التجارة العالمي، فكان من الواضح شعور باول بالانفعال والغضب. وقال ان «وولسي لا يعمل عندي. كل ما اعرفه هو ما قرأته في الصحف. وافترض انه يقوم بمهمة بتكليف من البنتاجون».

ويعيد نقاد باول الاكثر صخبا معارضته لملاحقة العراق الى دوره في حرب الخليج، عندما كان رئيسا للاركان المشتركة. ويؤكدون ان ذلك هو استمرار لخطأ سابق يرفض باول الاعتراف به.

ومن المؤكد ان النصيحة التي قدمها باول الى الرئيس بوش الأب، بعد ان قام العراق بغزو الكويت، كانت حذرة ومحترسة تماما. وكما جرى توثيق ذلك من جانب مايكل غوردن والجنرال برنارد ترينور في روايتهما الدقيقة عن حرب الخليج الموسومة (حروب الجنرالات: القصة الحقيقية للنزاع في الخليج)، عارض باول استخدام تحريك السفن لتوجيه رسالة الى صدام بشأن التصميم الاميركي، وهي معارضة يقول البعض انها شجعت الزعيم العراقي على التحرك ضد الكويت. (كان الرجل الذي دافع عن تحريك السفن باتجاه الخليج لردع الغزو هو بول وولفوفيتز، مساعد وزير الدفاع حينئذ). ودافع باول عن فترة اطول من العقوبات الاقتصادية والسياسية قبل ارسال القوات. وكان يريد، في البداية، ان يكون التركيز على الدفاع عن السعودية بدلا من تحرير الكويت. واعتمادا على ما ثبت انه تقديرات مبالغ بها لقوة العراق من جانب البنتاجون، اصر على ان الحرب لا يمكن شنها الا بمشاركة نصف مليون فرد من القوات. وفي النهاية، عندما عاد الجيش العراقي هاربا الى بلاده، اوصى بانهاء الحرب بعد خمسة ايام، على الرغم من ان نصف قوات الحرس الجمهوري العراقي الضاربة (كما كشفت المعلومات الاستخباراتية لاحقا) هربت بدباباتها عائدة الى العراق، حيث ساعدت لاحقا على سحق انتفاضة الشيعة والاكراد وضمان بقاء صدام في السلطة، وكان باول يخشى ان يؤدي قصف القوات العراقية المتراجعة على امتداد ما سمي بخط الموت الى جعل اميركا تبدو وحشية، وقد وافق الرئيس بوش على ذلك.

ويقنع هذا السجل المحافظين بأن باول كان مخلوع الفؤاد. وقد كتب ويليام كريستول، محرر الـ «ويكلي ستاندارد» المحافظة في اواخر سبتمبر (ايلول) الماضي في صحيفة الـ «واشنطن بوست» بأن الرئىس بوش الاب ذهب الى الحرب على الرغم من معارضة باول، وهو يتحدى الرئيس الحالي ان يفعل ما يماثل ذلك.

* رد غاضب

* وقد وضعت هذا الاتهام امام الرئيس السابق بوش فبعث برد مكتوب غاضب. وقال ان «كريستول يقول ان باول عارض استخدام القوة، وذلك افتراء باطل، ولا اساس له من الصحة اطلاقا، وقد قيمت رأي كولن من انه عندما تكون القوة ضرورية، فاننا سنستخدم ما يكفي منها لنقلل الضحايا الى ادنى حد ممكن.. ان عدم رغبة كولن في استخدام القوة هو اتهام جائر تماما، وكذبة لا يدعمها دليل».

اما بالنسبة للرأي القائل بأن باول اقنع الرئيس بأن يتخذ موقف تحييد صدام حسين، فقد كتب الرئيس السابق يقول: «كانت مهمتنا انهاء العدوان واخراج صدام من الكويت. وقد ابلغني القادة: المهمة انجزت، فأوقفت القتال. وللاسباب التي غالبا ما ذكرتها، لا اشعر بالندم لاننا تجنبنا تغيير المهمة. واعترف انه اعتمادا على رأي جميع شركائنا في التحالف كنت اشعر بأن صدام سيهرب من العراق او يقتل اذا ما اخذنا بالحسبان عظم هزيمته. وقد قللنا جميعا من شأن قوة صدام ووحشيته تجاه شعبه وهو ما يبقيه في السلطة».

ويلقي باول نفسه قليلا من الضوء على ذلك، اذ يقول انه «بامكان المرء ان يجادل، على نحو مبرر، بانه كان يتعين علينا ان نمضي في القتال يوما او يومين آخرين، حيث كنا سندمر المزيد من الدبابات، ونقتل المزيد من الناس، ونقدم عددا اكبر من الضحايا، وكان سيكون هناك دمار اعظم على امتداد خط الموت. وهكذا فانك عندما تقرأ بعض الاشياء، كما قرأت في مقالة نشرت اخيرا، اشارت الى ان باول اصر على ابقاء صدام حسين في السلطة في بغداد، فإن ذلك يثير غضبي. ويبدو الامر كما لو انني شبيه بشخصية راسبوتين الذي كان وحده قادرا على جعل كل هذا يحدث او لا يحدث».

وسيخبركم مسؤولو الادارة ان الاختلافات الفلسفية بين باول وزملائه مبالغ فيها. وقد سخر مسؤول في البيت الابيض مما سماه نسخة إم تي في حول «مباراة موت الشخصية الشهيرة» بشأن صنع السياسة التي تظهر في التقارير الاخبارية، وتؤكد رايس، التي تتمثل مهمتها في توفير حماية من الصراع الداخلي، «أنه، في الواقع، فريق امن قومي يتمتع كل اعضائه بسلطة معينة، ومن النادر ان نذهب الى الرئيس ونحن نحمل بعض القرارات المنقسمة»، ومن الصحيح القول انه منذ الحادي عشر من سبتمبر خفت الخلافات، واستنادا الى الاجتماعات المتواصلة غالبا لمجلس الامن القومي، ولقاءات كبار مسؤولي الحكومة كل مساء، يبدو ان مستشاري بوش يشعرون بالارتياح المتزايد تجاه بعضهم بعضا.

* اتجاه محافظ

* فهناك من ناحية، اتجاه محافظ جديد ازدهر في ولاية الرئيس ريجان الاولى قبل ان يقع في غرام السيطرة على الاسلحة، وهذه المجموعة تميل الى رؤية العالم بألوان داكنة، فهم يشككون بالمعاهدات والتحالفات التي تقيد القوة الامريكية، ولا يشعرون بالرغبة، عموما، في عمليات التدخل ذات الطابع الانساني، حيث لا تتعرض المصالح الامريكية الى خطر، ولكنهم يتمتعون بادراك معلن لالتزامات اميركا الاخلاقية، التي تنعكس، بقوة اعظم، في تكريس الطاقات لدعم الديمقراطيات المحاصرة مثل اسرائيل وتايوان (والبوسنة بالنسبة للبعض منهم خلال الادارات السابقة) وتضم هذه المجموعة وزير الدفاع رامسفيلد ومساعده بول وولفوفيتز ـ الذي يسخر من الفترة التي قبل فيها المهمة باعتبار ان سبب ضمه الى الادارة الجديدة يتمثل في مراقبة باول ـ وعدداً من المستشارين الخارجيين الذي جمعوا في البنتاجون. وتضم المجموعة نائب الرئيس تشيني، الذين كان راعيا كبيرا لباول، ولكن الذي كان يتصارع معه احيانا، عندما كان وزيرا للدفاع خلال فترة حرب الخليج حول ما كان يراه باعتباره تثاقل خطى الجنرال، وتعتبر رايس، التي تحقق نجاحات معينة في دورها كمستشارة للامن القومي، ووسيط سياسي مستقيم، اكثر نفادا للصبر، في الواقع، من باول في ما يتعلق بالدبلوماسية الانيقة والبارعة.

وتعكس المجموعة الثانية سياسة خارجية جمهورية اكثر تقليدية، من ذلك النمط الذي ساد في ظل حكم الرئيس بوش الاب، فهي تشعر بالارتياح من التحالفات والمعاهدات والمؤسسات الدولية، وهي اقل تشددا في تعزيز القيم الاميركية في الخارج، واكثر واقعية من الناحية السياسية في قراراتها، واكثر «صقلا» في لغتها، حسب تعبير احد المساعدين، ويعتبر باول نموذج هذا المعسكر، الذي يضم معظم كبار المسؤولين في وزارة الخارجية وبعض المتعاطفين في البيت الابيض، سوية مع مجموعة من الخارج تضم الرئيس بوش الاب.

ومنذ الحادي عشر من سبتمبر، فإن اية خلافات تميل الى الظهور على هوامش السياسة، يجري التقليل من شأنها عبر المساعدين الذين يتدخلون في اعداد الخلاصات ويهمسون في آذان المتعاطفين في الصحافة، ويقول باول ان الحكومة «في انسجام كامل» بشأن ادارة الحملة ضد الارهاب، وهو حساس جدا تجاه اي اقتراح يفرضه بنفسه على عمل البنتاجون. ويقول المساعدون انه يقتصر في نصيحته على المناسبات التي يطلب فيها الرئيس او نائبه ذلك، وقد نفى باول بشدة، وباعتبارها «هراء مطلقا»، تلك التقارير التي نشرها المتعاطفون مع رامسفيلد في الصحافة، واشاروا فيها الى انه طلب تنفيذ طريقة تدريجية بطيئة في الضربات الاولى في افغانستان، وابلغني الاسبوع الماضي قائلا: «اعرف بما فيه الكفاية ان لا افعل شيئا اعتدت على فعله لكسب العيش عندما يكون هناك شخص ما افضل مني كفاءة في القيام به».

ولم يقض باول نفسه كل تلك السنوات في الميدان التنفيذي بدون ان يصبح خبيرا في الصراع البيروقراطي. ان اسلوبه في القتال يتميز بالصبر والحكمة والحذر، انه يجري مقابلاته مسجلة لكي لا يتهم من جانب خصومه باساءة القول، إلا ضمنيا، (عندما سئل عن تقارير تحدثت عن نوع من الصدام مع رايس حول السلطات، نفى باول ذلك كلية، واضاف انه يعتبر مستشارة الامن القومي «مثل ابنة» وهو ما لا يحتمل ان يعني التعطف، ولكنه لا يترك مجالا للشك في من هو الاول).

ويتمتع باول بالكثير من الموالين في الحكومة والكونجرس ممن يتميزون بالاستعداد في ان يكونوا اكثر شخصية، وكانت هناك، مؤخرا، ضجة قصيرة الامد احدثتها تقارير صحافية شخصت وولفوفيتز، مساعد وزير الدفاع، باعتباره من متعصبي الجناح اليميني ـ ولم تستهدف رامسفيلد نفسه ـ وقد جرت معالجتها من جانب مؤيدين لباول في الادارة والكابيتول هيل.

ويتميز باول في الدقة بعدم المزايدة على قرار رئاسي، ولكنه مستعد لوضع نسيجه مسبقا على سياسة معينة قبل ان يثبت الرئيس رسميا موقفا معينا، فعندما كانت ادارة بوش الاب تتصارع حول مسألة التدخل في البوسنة، اعطى باول مقابلة مثيرة عاطفيا تحدث فيها عن حماقة التدخل، صورها اولئك الذين كانوا يفضلون الضربات الجوية باعتبارها تقترب من العصيان، وفي الشهر الماضي، في شنغهاي، القى خطابا امام كبار رجال المال والاعمال، كان، بدرجات معينة، اكثر تفاؤلا بشأن الاتجاه المعتدل للزعامة الصينية، مما عبر عنه الرئيس بوش.

* كفاءات باول

* ويقول اولئك الذين يعملون معه ان باول هو، في العادة، الشخص الافضل استعدادا في اي اجتماع، ويتميز بقدرة على توقع الجدالات والحجج، ويمكنه الاعتماد على تجربة اي حرب منذ فيتنام، وهناك سبعة مقاعد في مجلس الامن القومي، بينها مقعدا الرئيس ونائبه، وقد احتل باول ثلاثة منها.

وقال دبلوماسي تجادل مع باول: «انه مفكر يتميز بالبراعة والاناقة، ويتمتع بانضباط ذاتي حديدي، واعتداد وثقة بالنفس كبيرة، ومهارات عظيمة في القيادة، وفي عرض الافكار، ومهارات محددة في التحليل، ووجود قوي، انها توليفة مذهلة».

وفضلا عن ذلك هناك الهالة، هناك المحارب الذي تقلد الاوسمة، وهو الصديق الحميم لاربعة من الرؤساء، هو الرجل الذي يشعر كثيرون انه يمكن ان يصبح اول رئيس اميركي ـ افريقي، ان قصة انجازاته ومآثره هي موضوع ما يزيد على عشرين كتابا، بينها كتاب مذكراته الاكثر مبيعا. ومن غير المحتمل ان يثير اي شيء من هذا خشية او رهبة رجال ذوي تجربة مشابهة مثل تشيني ورامسفيلد، لكنه لا يمكن ان يعجز عن التأثير على رئيس لا يتمتع بأي من هذه المزايا. ويميل اولئك الذين يعملون معه الى تحاشي موضوع انتمائه العرقي، غير ان باول فكر في الامر كثيرا، وقد قال ان تحدره من سود جزر الهند الغربية، حيث انتهت العبودية في وقت ابكر من نهايتها في الولايات المتحدة، وحيث اختلاط الانساب الافريقية والاوروبية اكثر شيوعا، يمنحه ثقة بالنفس اعظم من ثقة المتحدرين من العبيد الاميركيين، وقد تعزز هذا في عالم الجيش الذي يقيم وزنا كبيرا للمآثر المجترحة، انه ذو بشرة فاتحة اللون، وصوت محايد اثنيا، جذاب في التلفزيون، ووجه جذاب ايضا، وصفه الكاتب هنري لويس جيتس باعتباره «نوعا من انفتاح كتاب سنوي»، وهذا يجعل منه انسانا يسهل التواصل معه، وكما ابلغ جيتس في سلسلة من المقابلات الصريحة المدهشة التي نشرتها «النيويوركر»: «اولا، أنا لا اطلق شيئا مقحما في وجههم. وانا لا اجلب اية صور مقولبة او مظاهر تنطوي على التهديد لوجودهم. بعض الناس السود يفعلون ذلك، وثانيا: استطيع ان اتغلب على اية صور مقولبة او تحفظات لديهم، لأن ادائي جيد، والشيء الثالث هو انني لست ذلك الاسود تماما».

وقالت رايس، التي قد تعرف، كامرأة سوداء، ربما اكثر من باول، وخزات وآلام الصور المقولبة، انه ذات مرة «حاول آخرون ان يستحثوا» قضية العرق ضد باول، وكان ذلك عندما اختارت الادارة مقاومة مؤتمر الامم المتحدة حول العنصرية الذي عقد في جنوب افريقيا، ونشرت مقالات تتكهن برغبة باول، المفتون بأفريقيا، في الذهاب الى المؤتمر، وقالت رايس ان الرئيس، في الواقع، ترك القرار لباول الذي رأى المؤتمر وقد انتهى ليصبح جلسة توجه الانتقادات العنيفة لاسرائيل، واختار عدم الحضور، وذكر ان كلا من باول ورايس شعرا بالانزعاج من السباق على الاهتمام بهذه المسألة.

* خدمة «نيويورك تايمز» ـ خاص بـ «الشرق الأوسط»