طالبان لن تختفي من المشهد الأفغاني

TT

الهجوم الذي استهدف في الاسبوع الماضي حافلة اميركية على الطريق ما بين جلال اباد وكابل ليس الوحيد من نوعه، وان كان الوحيد الذي اعترفت به القيادة الاميركية منذ منتصف الشهر الماضي، وقد قلل من شأنه المتحدث باسم القيادة في فلوريدا، فذكر انه أسفر عن اصابة جندي اميركي في ساقه، وان حالته ليست خطرة، إلا ان المعلومات المتسربة من المصادر غير الاميركية تشير الى ان الأمر أكبر من ذلك، فالاصابة لم تلحق جندياً واحداً، ولكن طائرات الهليكوبتر شوهدت وهي تجلي أكثر من واحد من مكان الاشتباك، ثم ان الاشتباك ذاته لم يكن حدثاً استثنائياً، ولكنه يتكرر عدة مرات خلال الاسبوع، ولكن القيادة الاميركية تفرض تعتيماً على تلك الاشتباكات، كما تفرض تعتيماً بذات القدر على أعداد الضحايا من الجنود الاميركيين لاسباب مفهومة، أهمها الحرص على تسكين وتهدئة الرأي العام الاميركي، وعدم اعطاء الفرصة لزيادة أعداد الأصوات الرافضة لاستمرار القصف، بعد اسقاط نظام وحكومة طالبان.

ومما يلاحظه المرء وهو يتابع المشهد الافغاني ان التقارير التي تحدثت عن الهجوم على الحافلة الاميركية اشارت في ذات اليوم (1/2) الى ان قوات التحالف اتمت الاستيلاء على مدينة «داراكيان» الخاضعة لسيطرة الأقلية الاسماعيلية في ولاية «باغلان» شمال كابول، بعد ستة أسابيع من المواجهات المتفرقة بين الطرفين، وما يلفت النظر في هذا الشق ليس تمرد «الاسماعيليين»، ولكن كون القتال في داراكيان مستمر منذ شهر ونصف شهر تقريباً، دون أن تشير الى ذلك التقارير أو التصريحات الصحفية، وهو ما يعزز المعلومات التي تتحدث عن عدم اكتمال سيطرة الحكومة الجديدة على البلاد بشكل كاف، وعن كون سيطرتها مبسوطة بالدرجة الأولى في حدود العاصمة كابول، وهي معلومات تعززها التصريحات الأخيرة لرئيس الوزراء حميد قرضاي، التي أيد فيها استمرار القصف الاميركي، حيث يبدو انه يعد الآن السبيل الوحيد الذي يمكن أن يمهد لسيطرة الحكومة الجديدة على الأوضاع في البلاد.

بعد اسقاط نظام طالبان فان الهم الأكبر للحملة الاميركية اصبح موجهاً ضد منظمة القاعدة وقيادتها وعلى رأسها اسامة بن لادن، وليس هناك شك في أن المنظمة تلقت ضربات قاصمة منذ ان بدأ القصف في السابع من شهر اكتوبر (تشرين الأول) الماضي، وان انتهاءها في افغانستان هو مسألة وقت فقط، واحسب انه بعد القضاء على قيادتها بأي صورة فان حماس الاميركيين لاستمرار الحملة سوف يخف بصورة نسبية، وان الجهود بعد ذلك سوف تنصرف الى تفكيك أو القضاء على شبكات القاعدة في الخارج، وسوف يتراجع ذلك الحماس أكثر اذا قررت واشنطن أن تنقل عملية القصف الى جبهات أخرى خارج افغانستان.

اذا صح ذلك التحليل فهو يعني ان طالبان لن تختفي من المشهد، وان احتمالات عودتها الى الساحة قوية، وهي عودة قد تكون على شكل مجموعة جهادية مناوئة أو حزب سياسي معارض، وفي الحالتين فانها ستحاول استثمار نقاط ضعف النظام الأساسية وهي: كونه نصب بارادة اميركية، ثم كون حظوظ البشتون فيه قليلة نسبياً، بينما حظوظ الاقليات الأخرى أكبر، وأخيراً كونه غير قادر على فرض استتباب الأمن في البلاد.

يعزز ذلك الاحتمال ان الولايات المتحدة لم تكن لها مشكلة جوهرية مع نظام طالبان إلا حين تم تفجير سفارتي الولايات المتحدة في نيروبي ودار السلام (عام 1998) واتجاه الأصابع الى بن لادن وتنظيم القاعدة في المسؤولية عن الحادث. في ما خلا ذلك فان العلاقات بين واشنطن وكابول كانت شبه عادية، رغم عدم اعتراف الادارة الاميركية بنظام طالبان.

والأمر كذلك، فبوسعنا ان نقول ان واشنطن لن يكون لديها اعتراض على عودة حركة طالبان سياسياً، خصوصاً اذا اختفى الملا عمر بأي صورة، ويلاحظ في هذا الصدد ان اجهزة الاستخبارات والقوات الخاصة الاميركية لم تعن كثيراً بإلقاء القبض على قادة طالبان، باستثناء من اشترك منهم في الاشتباك معها أو تحصن مع عناصر القاعدة، مثل الملا عبدالجليل الذي كان نائباً لوزير الدفاع ومسؤول الاستخبارات في الحركة قاري احمد الله الذي اعلن عن قتله في الاسبوع الماضي.

في ما خلا ذلك بوسعنا القول بأن الجسم القيادي لحركة طالبان لايزال كما هو الى حد كبير وثمة معلومات تشير الى ان حوالي عشرين مسؤولا كبيراً من رجال الصف الأول في حكومة طالبان جرى تأمينهم وخرجوا سالمين سواء من قندهار أو كابول، بعضهم تسلل الى باكستان والبعض الآخر اختفى في المحيط القبائلي البشتوني، وأصبحوا في حماية زعمائها وشيوخها، ليس هذا فحسب، وإنما تشير المعلومات أيضاً الى حوالي 20 ألفاً من كوادر وعناصر الحركة، التي قدر عدد رجالها بعدد يتراوح بين 40 و50 ألفاً، هؤلاء أيضاً جرى تأمينهم وخرجوا سالمين، لكي يشكلوا رصيداً للحركة يمكن توجيهه أو استثماره تبعاً للظروف.

ومن الواضح ان حركة طالبان استخدمت استراتيجية مختلفة عما اتبعته القاعدة، فالأولون آثروا التراجع والانسحاب في العمق البشتوني الممتد على الجانبين الباكستاني والافغاني، تطلعاً الى دور في المستقبل، أما قيادة وعناصر القاعدة فقد كانت حرية حركتهم محدودة، أو كان ظهرهم الى الحائط كما يقال، باعتبار ان أغلبهم من الأجانب الذين لم يكن أمامهم سوى المواجهة والاستمرار في القتال حتى آخر رمق، لذلك كانت الاصابات والضحايا بينهم أضعافها بين جماعة طالبان.

ومن المعروف ان الملا نجيب الله، الحاكم البشتوني الحالي لمدينة قندهار، وأحد زعماء المجاهدين سابقاً، هو الذي وفر ممراً آمناً للملا محمد عمر، ولوزيري الدفاع والداخلية الملا عبيد الله اخوند زاده، والملا عبدالرزاق، للخروج من المدينة الى جهة غير معلومة، ترافقهم ثلة من قوات طالبان شديدة التسليح، وبقيت في المدينة بعض قوات طالبان مدة أطول قبل تسليمها الى نجيب الله، وذلك كنوع من التمويه على الاميركيين، حتى يتمكن الملا عمر من الوصول الى مراده.

ورغم الاعتراضات الاميركية العلنية على السماح للملا عمر بالفرار، وتشديد واشنطن على حاكم قندهار الجديد بعدم ابرام أي صفقة مع زعيم طالبان، فان نجيب الله والزعماء القبليين بالمنطقة الذين تولوا مفاوضات تسليم المدينة، لم يكن أمامهم سوى الامتثال لتقاليد الحرب القبلية، المستندة الى شرف الكلمة والوعد، وقد حاول حميد قرضاي، رئيس الحكومة الجديد، تغطية الموقف في وقت لاحق، حين اعلن ان حكومته تعتبر الملا عمر «مجرماً فاراً من العدالة» وان ملاحقته ستكون من مهام الحكومة.

المفهوم ان الملا نجيب الله ـ الذي كان على علاقة طيبة بطالبان في السابق ـ هو الذي تولى بالاتفاق مع شيوخ القبائل البشتونية تأمين خروج بقية قادة طالبان من قندهار والمقاطعات الجنوبية، ذلك ان الاتفاق الذي بمقتضاه سلمت الحركة السلطة الى زعماء القبائل كانت «الحصانة» هي المقابل الذي حصل عليه قادة الحركة، حين قبلوا باتمام عملية التسليم.

الاستراتيجية ذاتها تم اتباعها في المحافظات الأخرى التي تم فيها انتقال السلطة بشكل سلمي، حيث اعتبرت الحصانة مقابل التسليم، وهو ما حدث في محافظة هيرات مثلا، حيث استقبل حاكمها الطالباني، مولوي محمد خير خواه، بنفسه الجنرال الطاجيكي اسماعيل خان، زعيم المجاهدين السابق. كذلك عقد قائد قوات طالبان في شرق افغانستان، الملا جلال الدين حقاني، وحاكم مقاطعة ننجرهار (عاصمتها جلال اباد) الملا عبد الكبير، صفقات شبيهة مع القائد حاجي عبدالقدير الزعيم البشتوني الذي يحكم المنطقة الآن، وجرى تأمين الرجلين ومساعديهما بمقتضى ذلك الاتفاق.

هذه الاستراتيجية سمحت لحركة طالبان بالحفاظ على كامل قياداتها ومعظم قواعدها في الحزام البشتوني، ومما ذكرته صحيفة «ذا نيوز» الباكستانية الرصينة على لسان مسؤول باكستاني كبير قوله: سواء أقر الاميركيون بهذا أم لم يقروا، فان قوات البشتون المناوئة لطالبان لم تسيطر على كامل الحزام البشتوني في شرق وغرب وجنوب البلاد، إلا بموافقة ضمنية ودعم من طالبان.

يبقى بعد ذلك السؤال: هل ستكتفي طالبان بأن تقوم بدور المناوىء للنظام فقط؟ أم انها ستصبح رصيداً احتياطياً متوارياً عن الأنظار، لكي يستعين به القادة البشتونيون في النظام الجديد مستقبلا، اذا ما اضطروا الى مواجهة نزعة السيطرة لدى قادة التحالف الشمالي من المنتمين الى اقليات الطاجيك والاوزبك وغيرهم؟

أياً كان الأمر، فالقدر المتيقن ان حركة طالبان لم تندثر، وستظل طرفاً في المعادلة، للعب دور ما في المستبقل لم يتحدد بعد، ومن المبكر التكهن به الآن.