حصرياً على...

TT

ان كنت تعتمد على التلفزيون في خلق لغة صحيحة ثالثة يلتف حولها الناس وتكون وسطا بين العامية والفصحى، فعلى عقلك العوض، وفي ما تشاهده يوميا من اسماء برامج يكفيك، فما ان ينتهي برنامج (هيصة) حتى يأتيك «شوبدو يصير» وقبله «هيك صار» ناهيك من خليك وفليك وكليك، وهذا كله في المسموح لأنك ما ان تدخل في الممنوع حتى يأتيك «مامنوعا» ولا تنس ذلك البرنامج الذي فيه «برم قنينة».

ودعك من ذكاء الاشتقاق العامي فنحن مع اللغة الفصيحة وهي اذكى من هذه التصريفات، والمشكلة تبدو اصعب مع الذين يريدون احياء الفصحى، فأهل العامية المبتذلة انتهت قصتهم، وهدفهم واضح، أما الذين يتفزلكون بالفصحى، فإن تقعرهم احيانا اثقل على القلب واصعب على العقل من العامية الفالتة التي حسم اصحابها امرهم، وحددوا طبيعة معسكرهم.

وقبل ان تبرمها وتتوكل سنذكرك بعبارة متقعرة شاعت اخيرا، وهي (حصرياً) ويعني بها الذين ابتكروها التفرد بعرض المادة او المسلسل ويستخدمونها بمعنى المرادف العربي للمصطلح المهني الانجليزي Exclusive.

ولا شك ان الذي اخترع (حصرياً) قد قطع عهده مع معاجم اللغة وانبتت صلته بها منذ زمن طويل، فهذه اللفظة بالذات لها عشرات المعاني غير السارة التي تتغلب كلها على المعنى الذي قصده الفصيح المعاصر الذي اقترحها وعممها، وفرضها بقوة التكرار.

ان الحصر في اللغة يعني اول ما يعنيه العي وعدم القدرة على الكلام، فالحالة الحصرية حالة بكمية، او تأتأية في افضل الاحوال، وبعد العي يأتي ضيق الصدر، ففي اللغة الصحيحة حصر الصدور يعني ضيقها لقوله تعالى «إلا الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق أو جاءوكم حصرت صدورهم ان يقاتلوكم».

ومعنى ضيق الصدر هذا يتفق عليه الفراء والكسائي والاخفش واحمد بن يحيى وهؤلاء يتفقون ايضا على ان الحصر يعني عدم القدرة على البول، ويزيدون بأن الحصور من الابل هي الضيقة الاحاليل التي تعاني من مشاكل مزمنة في تصريف ماء بطونها، وهناك من يمد الحصر ليشمل الغائط كالاصمعي واليزيدي وبذلك تصبح بمعنى امساك وقاكم الله من شره وضره.

والى هذه المعاني الحصرية التي طلعت بها قناة حصريا.. يضاف معنى اصعب، فالحصر يعني السجن والتضييق، وبذلك يكون الحاصر بمعنى السجان او كل ما يقيد الحركة وبهذا المعنى استخدمها ابن ميادة معتذرا لحبيبته ليلى:

وما هجر ليلى ان تكون تباعدت عليك ولا ان احصرتك شغول واصعب المعاني الحصرية نفسيا هو ما اتى به ابن الاعرابي الذي وافق رؤبة بأن المحصور هو المحبوس وزاد عليه بأن المحصور من لا اربة له في النساء، وقد تظن ان المحصور هنا يمتنع عن النساء عفافا لكن الازهري لا يترك لك اية فرصة للهرب من المعنى الحقيقي، فالمحصور عنده من حصر عن النساء فلا يستطيعهن، وافضل تفسير هنا ان تقول انه مربوط بسحر او غيره وإن العجز الجنسي فيه ربما يكون طارئا، وهكذا يكون «المحصور» فصحوياً مختلفاً مضموناً وليس شكلاً عما يقصده العامة بالمحصورين. وقبل ان تطمئن الى هذا التفسير المريح لانقاذ الكرامة وعدم مساواة المحصور بالخصي يكمل الازهري معروفه فيستشهد بحديث القبطي الذي امر النبي صلى الله عليه وسلم بقتله، فرفعت الريح ثوبه فإذا هو حصور أي مقطوع الذكر مجبوب.

ولو كانت ربع هذه المعاني في ذهن الذي احيا كلمة (حصرياً) لامتنع قطعا عن استخدامها ولعرف ان التقعر الفصحوي مثل التسيب العامي، فـ «هيصة» بالنتيجة مثل «حصرياً» ليست من صنف اللغة الثالثة التي نأمل ان يرسخها التلفزيون لمواجهة ميوعة العامية التي تتقدم باطراد مستغلة تقعر اهل الفصحى، وعدم قدرتهم على اختيار الفصيح الدارج، فثلاثة ارباع العامية فصحى محورة يمكن اعادتها الى جذور مقبولة وسهلة النطق، وهذا يحتاج قبل القرار الى نية حسنة تؤكد على ان ادارات التلفزيونات العربية لا تعمل على إبادة الفصحى المقبولة للقضاء على آخر حصون الهوية العربية.