الاقتصاد السليم في الجسم السليم

TT

على ابواب العام الجديد ينبغي على الدول الغنية ان تساعد الدول الفقيرة في مجال الرعاية الصحية لمواطنيها، اذ ثمة اسباب عديدة تجعل الدول الفقيرة مستمرة في فقرها، منها الحكومات السيئة، والحروب الاهلية، والكوارث الطبيعية، لكن اهمها على الاطلاق هو الاوبئة والامراض. فالملاريا لوحدها مثلا، حسب آخر تقارير منظمة الصحة العالمية في جنيف، تحرم دول شبه الصحراء الافريقية من 6 في المائة من قوتها الاقتصادية. لكن الرقم الفعلي قد يكون اعلى بكثير ليصل ربما الى 50 في المائة. ثم هناك الايدز الذي ينتشر بسرعة مدمرا كالسيل الجارف كل ما يصادفه امامه، عن طريق تقصير الأعمار اولا، وتخفيض الانتاجية ثانيا، لأن المصابين به يكونون اشبه بالعاجزين عن العمل. كذلك فان نسبة الوفيات العالية بين الاطفال ترغم العائلات على انجاب عدد كبير من الاطفال، مما يجعلها عاجزة تماما عن الانفاق على تعليمهم ورعايتهم الصحية بشكل كاف. وهذا ما يحول ايضا دون انضمام امهاتهم الى فرق العمل المنتج. بعبارة اخرى فان الامراض تؤدي الى سلسلة كاملة من السلبيات التي لا علاج لها، الا بعلاج مسبباتها.

المعلوم ان صحة مواطني البلدان الفقيرة تقاس عادة بنسبة عدد الاشخاص الأصحاء، وبمقدار الانفاق بالدولار على تحسين الرعاية الصحية على الفرد الواحد، حسب تقرير منظمة الصحة العالمية هذا، الذي يؤكد ان زيادة ملموسة في الانفاق الصحي من قبل الجميع، الدول الفقيرة والغنية على السواء، من شأنها انتاج مكاسب اقتصادية وبشرية ايضا.

جامعة هارفرد الشهيرة في الولايات المتحدة اصدرت بدورها دراسة ايضا تطالب الدول الغنية بانفاق نسبة اضافية قدرها عشر واحد في المائة فقط من قوتها الاقتصادية على الرعاية الصحية للدول الفقيرة. وهذا يعني مضاعفة المساعدة الصحية الحالية التي تقدمها واشنطن، والحصول على عشرة مليارات دولار اضافية في العام الواحد. ولو تعاونت الدول الغنية جميعها على هذا الاساس لأمكن اضافة 38 مليار دولار اخرى سنويا على الانفاق العام على الرعاية الصحية في حلول عام 2015.

يقول تقرير جامعة هارفرد انه لو تلقت الدول الفقيرة هذا المال وأنفقته على الرعاية الصحية لتمكنت من جني نحو 360 مليار دولار سنويا من المكاسب الاقتصادية، وبالتالي رفعت من مستوى شعوبها من حافة الفقر المدقع، فضلا عن انقاذ حياة 8 ملايين من البشر في السنة ايضا.

الدراسة لاقت تجاوبا كبيرا في اوروبا، لكن واشنطن كالعادة لم تتحمس للفكرة، رغم ان بعض المكاسب التي ستجنى من ذلك ستعود على الولايات المتحدة ذاتها. فواشنطن تجند عادة مبدأ المساعدات الاجنبية التي لا جدوى منها عادة، لان اغلبيتها تستقر اغلبيتها في نهاية المطاف في جيوب بعض المسؤولين الفاسدين، من دون ان تعطي اي نتيجة تذكر. وللدلالة على جدوى مساعدات الرعاية الصحية يقول تقرير «هارفرد» انه لقاء مبلغ تافه قدره 15 دولارا فقط يمكن شفاء حالة من السل في البلدان الفقيرة، التي يصعب على بعضها حتى تأمين مثل هذا المبلغ الزهيد. كذلك ينطبق هذا المثال على لقاحات الاطفال الرخيصة الكلفة والبسيطة التطبيق التي من شأنها انقاذ حياة 3 ملايين طفل سنويا. والمؤسف فعلا ان العديد من البلدان الفقيرة اخذت تتخلى عن لقاحات الاطفال هذه، لانها لا تملك المال الكافي لها، اذ يبلغ الإنفاق على الرعاية الصحية للشخص الواحد في افقر 60 دولة في العالم حوالي 13دولارا طالبت منظمة الصحة العالمية رفعها الى 34 دولارا للوصول الى الغاية المنشودة، في حين يصل هذا المبلغ في الولايات المتحدة الى 4500 دولار على سبيل المقارنة.

ان تحسين الرعاية الصحية في البلدان الفقيرة هو استثمار بحد ذاته، حتى بالنسبة الى الاميركيين أنفسهم. اذ ان وجود عالم ثالث مستقر سياسيا واقتصاديا سيؤدي الى زيادة الانفاق على الكماليات ايضا، وشراء البضاعة الاميركية. ومع ذلك لا تحتاج واشنطن الى مثل هذه الحوافز. اذ ان انقاذ اطفال العالم وشعوبه الفقيرة هو حافز كاف بحد ذاته في مطلع هذا العام الجديد.