الهم الأخير

TT

بين خفض سعر صرف الجنيه في مصر والتظاهرة ضد البطالة في البحرين، وضع عربي شبه عام، هو الوضع الاقتصادي الذي يزداد تأزماً في معظم الدول العربية. والتأزم الاقتصادي ليس مولوداً عربياً ولا احتكاراً عربياً ولا ظاهرة عربية. إنه حالة عالمية، تزداد في مكان وتنخفض في آخر: من اميركا حيث تبلغ نسبة البطالة حوالي 6% الآن، الى اسبانيا حيث تبلغ 25% اي ربع القوة العاملة في البلاد.

لكن الخاصية العربية في هذا الباب، هي ان الاقتصاد مسألة تأتي بعد السياسة بأميال. فالناس، والحكومات والمؤسسات، لا تعنى الا بالشأن السياسي، في المعارضة وفي النظام سواء بسواء. وغالباً ما تستهدف المعارضة تدمير المداخيل والثروات الاقتصادية على انها «مقتل» الانظمة، غير عابئة بما تسببه للشعوب، وربما تكون البحرين اكثر دول الخليج «عملا». فالبحريني يعمل في الفنادق وفي المعامل وعلى الطائرات و«يقبل» الاشغال التي لا «يقبلها» عمال الدول الاكثر غنى. الا ان هذا لا يمنع وجود بطالة ولا يمنع ايضا ان تقر بها الدولة التي تحاول احداث الوظائف والاعمال بكل طاقتها.

القضية ليست البطالة نفسها بل في الموقف منها. ان الدول العربية، ربما جميعها، تعامل هذا الموضوع وكأنه سر لا يباح. فالارقام قد تكون مفزعة احياناً. والاعداد الهائلة من شبان المغرب العربي تمضي وقتها في مقاهي الفراغ. وبعد 11 سبتمبر (ايلول) سوف تواجه الهجرة السرية والعلنية من العالم العربي الى اوروبا واميركا، صعوبة متزايدة. وهذه الهجرة تشكل في عدد من البلدان العربية دخلاً قومياً بحد ذاته. وفي لبنان، مثالاً، ساهم المال العامل في الخارج في رد شبح الفقر والمجاعة خلال الحرب عن الاهل المقيمين. لكن الهجرة تحولت الآن الى نزف مريع. فالفرص مغلقة امام جيل طويل من المتخرجين كما هي مغلقة الآن امام العمال والموظفين العاديين. وليس هناك من يعرف ما هي النسبة الحقيقية للبطالة. لكنني اعرف على وجه التأكيد ان استاذة في طب الاسنان تتلقى 10 دولارات لقاء ساعة تدريس في احدى الجامعات. اي انها بدل القبول بالبطالة قبلت ما هو اسوأ: البدل المهين لسنوات طويلة من الاختصاص في جامعات باريس. ومثل هذه المكافآت كانت في الماضي من سمات اوروبا الشرقية. لكن هناك كان التعليم ايضاً مجانياً. اي لم يكن الطالب يتكبد 10 آلاف دولار في العام لكي يستعيدها عشرة دولارات في الساعة... كاستاذ جامعي.

قبل ان يقف من «يصحح» هذه المعلومات، فإن هذا طبعاً ليس حال «جميع» الاساتذة، لكن يكفي ان يكون حال البعض منهم لكي نأخذ فكرة عن الوضع الاقتصادي في العالم العربي برمته، وليس فقط في لبنان. ان السياسيين، للأسف، لا يقدمون لنا ذلك العالم النموذجي، ولا يبدو اطلاقاً ان هموم الملايين من البشر هي همومهم ايضاً. واذا كان هذا هو حاضر الامة امكننا ان نتخيل شيئاً من صورة المستقبل، من المحيط الى الخليج. واذا كانت الازمة (والخوف) تضرب بلداً صغيراً كلبنان، فما هي الحال في بلد كالمغرب او اليمن او العراق؟ والى متى يمكن الاستمرار في اطعام الشعوب العربية خطباً وسياسة وتقديم كراسي المقاهي لها كي تستريح عليها.

اننا معنيون في كل شأن سياسي في العالم، تقريباً، ولا علاقة لنا برغيف اهلنا، كأنما هي دائماً مسؤولية سوانا. كأنما هي دائماً مسألة قابلة للتأجيل، من جيل الى جيل. كأنما مسؤوليتنا الوحيدة هي القضايا الكبرى وحدها، كالوضع في آسيا، ومعركة الرئاسة الاميركية واحتمالات الجفاف في القطب الشمالي. اقرأ ماذا يقول رجال الاقتصاد عندنا: عن بورصة نيويورك، عن سعر النحاس، عن مستقبل التكنولوجيا، وحاول ان تعثر على واحد منهم معني بالبطالة والفقر وحال الامة الحقيقي.