سفينة السلاح خرجت من إيلات.. وعادت إليها!

TT

في يوم وصول وسيط السلام الاميركي الجنرال انتوني زيني الى البلاد اعلنت حكومة شارون عن ضبط سفينة تحمل خمسين طناً من الاسلحة، وزعمت ان الرئيس الفلسطيني اصدر اوامر الشراء وبالتالي التهريب للسلاح الى المناطق الفلسطينية. هذه الواقعة بحاجة الى رؤية متروية بين الافتراض والحقيقة اذ لن يفيد احدا الاستعجال في الدفاع عن المبدأ او توزيع النفي للمسؤولية والظن ان القصة سوف تنتهي بسهولة.

كل المعلومات المتوفرة اسرائيلية تماماً، وقد وردت على لسان شارون ووزير دفاعه ورئيس اركانه. في الثالث من يناير قالوا ان السفينة غير مسجلة مع أي بلد، ومحملة بالسلاح من ايران، ومتجهة الى منطقة قرب ميناء ايلات، وهدفها القاء الاسلحة في البحر لانتشالها لاحقاً من قبل غواصين وتهريبها الى مناطق السلطة الفلسطينية. وقالوا ان السفينة ضبطت على بعد خمسمئة كيلومتر من ايلات في عرض البحر الاحمر، أي قرب حدود جنوب مصر مع شمال السودان، وان السيطرة على السفينة التي يشرف عليها ضباط بحرية فلسطينيون تمت في دقائق وبدون اطلاق رصاصة. بعد ايام تغيرت المعلومات الاسرائيلية قليلاً اذ اعلنوا ان السفينة كانت متجهة الى البحر الابيض عبر قناة السويس وتهدف الى القاء الاسلحة الكثيرة على دفعات امام شواطئ سيناء ثم غزة ولبنان، واصبح للسفينة علم وتسجيل، والاهم انهم اعلنوا معرفتهم بقصة السفينة منذ شهور وتتبعهم المسؤولين عنها. هذه المعلومة الاخيرة أُريدَ منها الصاق التهمة بالسلطة الفلسطينية رغم انها (المعلومة) تفضح هدف اسرائيل الاعلامي من موعد الاعلان عن ضبط السفينة وهي على ذلك البعد من وجهتها. اذا افترضنا صحة معلومات اسرائيل فإن ما فعلته قواتها هو قرصنة في عرض البحر الاحمر لسفينة لا يوجد عليها مسلحون ولا تمثل الاسلحة المحملة فيها أي خطر سريع على اسرائيل او على الملاحة الدولية، وهذا حسب معرفة الاسرائيليين لذلك من متابعتهم منذ شهور لامرها كما اعلنوا. التهمة الاسرائيلية الاساسية ان قبطان السفينة فلسطيني وبالتالي فهو تحت امرة عرفات (مثل كل الفصائل المعارضة للرئيس) ويحمل السلاح للمناطق الفلسطينية. لكن هناك ايضاً اتهامات ضمنية اخرى لمصر وللاردن ضمن السيناريو الشاروني.

أي سفينة تصل الى اعلى البحر الاحمر عليها التوجه عبر خليج العقبة او خليج السويس. الدخول الى خليج العقبة يعني التوجه الى موانئ دهب ونويبع المصرية، او الصعود الى ميناء العقبة الاردني او ايلات الاسرائيلي. ولان خليج العقبة ضيق فان السفن المبحرة فيه محددة ومعروفة سلفاً ومراقبة على الدوام بحيث لا يسهل تهريب الاسلحة في سفينة بهذا الحجم الكبير ولا تحمل أي مواد اخرى الا بتغطية من سلطات احدى الدول المعنية. الم يكن من الافضل لاسرائيل لو انتظرت ابتعاد السفينة عن السودان ودخولها لخليج العقبة والسيطرة عليها على مسافة آمنة من ايلات؟

اما اذا اختارت السفينة عند رأس محمد التوجه شمال غرب والدخول الى خليج السويس، فهي بذلك تدخل الى مياه اقليمية مصرية تحدها شبه جزيرة سيناء شرقاً ومنطقتا قبلي وبحري غرباً. ثم تنتهي رحلة أي سفينة الى بداية قناة السويس حيث يتم التأكد من الحمولة ويركبها قبطان مصري طوال رحلتها بطول القناة حتى دخولها البحر الابيض المتوسط. اليس اذاً ادعاء اسرائيل بوجهة السفينة عبر السويس يحمل في طياته اتهاماً لمصر بأنها كانت ستغض النظر؟ الم يكن من الاجدر لاسرائيل ان تنتظر خروج السفينة من قناة السويس الى البحر الابيض وتضبطها على بعد مئتي كيلو متر مثلاً من المياه الفلسطينية؟ ورغم ان هذا سيكون قرصنة ايضاً الا انه ضربة رابحة اكبر لشارون.

الواقع ان الاتهام الاسرائيلي الضمني يشمل الولايات المتحدة وبريطانيا وبعض الدول الغربية الاخرى التي تمخر سفنها الحربية مياه المنطقة وتراقب قواتها الجوية كل ما يمكن ان يكون هدفاً مضاداً ... كيف ؟ الرواية الاسرائيلية تقول ان السفينة حملت الاسلحة من ايران، وبالتالي مرت قبل ان تأخذها اسرائيل، بمنطقة مضيق هرمز وخليج عمان ثم بحر العرب ووصلت خليج عدن واجتازت باب المندب وصعدت البحر الاحمر حيث استقبلتها القوات البحرية والجوية الاسرائيلية.

منطقة هرمز وخليج عمان وبحر العرب هذه الايام مراقبة تماماً من البحرية والطائرات الاميركية والبريطانية، ويستحيل ان تمر سفينة دون معرفة امرها ونوع ومصدر ووجهة حمولتها وذلك خوفاً من عمليات ارهابية ضد احد الاهداف البحرية الاميركية التي تتحمل من هناك عبء الحرب في افغانستان. وقد زاد التنبه لمثل هذه المخاطر بعد سيطرة البريطانيين في القنال الانجليزي على سفينة ابلغهم البعض انها تحمل مواد خطرة وتهدف للقيام بعملية ارهابية ضخمة... أي هناك تيقظ وتتبع استخباري غربي لكل الاحتمالات.

اذا افلتت سفينة الاسلحة اياها من رقابة حاملات الطائرات والغواصات الاميركية قرب خليج عدن وفي بحر العرب، فكيف تفلت قرب سواحل الصومال حيث يتجمع الان حوالي سبعة الاف مقاتل غربي على ظهر السفن؟ وكيف تترك السفينة وشأنها في خليج عدن وتمر من باب المندب؟ قبل ايام قليلة من اعلان قصة السفينة، وربما في نفس يوم مرورها المفترض من باب المندب، ظهرت قصة موجزها ان المقاتلات الاميركية اعترضت طائرة ركاب يمنية وكادت تسقطها لانها حلقت على ارتفاع منخفض (اربعة عشر الف قدم بدل ثلاثين الف قدم) مما دفع الاميركان في منطقة خليج عدن وباب المندب للظن ان الطائرة خطرة على قطع الاسطول. وقيل ان الحكومة اليمنية كانت قد حذرت الطائرات المدنية بتجنب الطيران فوق مناطق تجمع القطع البحرية الغربية.

كيف اذاً مرت السفينة اياها على مسافة قريبة من قطع بحرية غربية عسكرية مستنفرة الى اقصى درجة؟ علماً بأن مثل هذه السفينة يمكنها القاء الغام بحرية تهدد حرية حركة كل السفن، ويمكنها اطلاق طوربيدات، ناهيك من انواع اخرى من العمليات الارهابية، فهل كان الاسطول الاميركي يعرف بأمر السفينة سلفاً وسكت عنها؟ ولماذا ؟ ام ان الاحتياطات الامنية الاميركية والغربية تعادل «صفر»؟ ثم لماذا لم تبلغ اسرائيل الاميركان بقصة السفينة التي مرت قرب اسطولهم؟ هل كانوا متأكدين من سلامتها، وبالتالي لم يكن هناك مبرر للقبض عليها، كما فعلوا على بعد خمسمئة كيلومتر من ايلات؟ السؤال الاهم هل جاءت هذه السفينة اصلاً بحمولتها من ايران ومرت من باب المندب؟ وهل كانت وجهتها بالفعل قناة السويس؟

لقد ادلت اسرائيل بمعلوماتها عن السفينة معلنة الاتهام والحكم فوراً، وقبل التحقيق المفترض مع القبطان والطاقم، بل قبل وصولهم الى ايلات، فهل فبركت الاعتراف ام كانت تعرفه سلفاً ؟ الثابت ان ايران انكرت أي صلة او معرفة بالامر، ومثلها فعلت السلطة الفلسطينية، كما ان ايران والسلطة ليستا في افضل علاقات. لكن اذا افترضنا حاجة الفلسطينيين للسلاح فما مدى منطقية ان تلجأ السلطة الى عملية تهريب كهذه؟ وما مدى تقبل ايران الان الاشتراك في مخاطرة كهذه؟

لقد كانت حاجة الفلسطينيين للسلاح المتطور والقادر على صد طائرات ودبابات حاجة معروفة، وذلك منذ بداية تعثر السلام قبل سنوات ولكنهم لم يهربوا أي قطعة حتى في ظروف الاسترخاء الامني وتوفر فرص التهريب، ولم يثبت عليهم التهريب، كما انهم لم يستعملوا مثل هذه الاسلحة في احلك الظروف التي مرت بهم أخيرا. اذا كانت السلطة او غيرها من الفلسطينيين قد قرروا جلب السلاح، فهل الطريق من ايران عبر البحر الاحمر ـ والان تحديداً ـ هو الافضل او الاسلوب الوحيد؟ السلاح المطلوب متوفر في السوق السوداء الاسرائيلية بأسعار وتكلفة اقل من كلفة هذه السفينة. الاسلحة المشابهة مكدسة لدى الفصائل الفلسطينية في لبنان ويمكن ايصالها براً وبحراً الى مناطق اقرب لفلسطين واكثر امنا من ذلك الطريق . هذا من دون الحديث عن استعداد دول عربية اخرى لتسهيل المهمة.

اذا كانت السلطة او المعارضة الفلسطينية متهورة تحت ضغط القمع والارهاب الاسرائيلي الاخير، وتناست الظروف الدولية والتهديد الاميركي بالبحث عن اهداف بعد افغانستان، فهل نسيت ايران ذلك وهي التي تعرف تماماً مساعي اسرائيل لتوريطها في صفات الارهاب؟ واذا كانت ايران مصرة على تسليح الفلسطينيين، فهل هذا هو افضل طريق؟

في يوم ما سيتضح ان هذه السفينة شحنت حمولتها في ايلات وهي اسلحة من المخازن التي استولى عليها شارون في غزو لبنان عام 1982، ثم ابحرت جنوباً واستدارت حسب الطلب والموعد ليتم القاء القبض عليها واعادتها الى ايلات. لقد احسن الرئيس عرفات صنعاً بفتح التحقيق والمطالبة باشراك اميركا وروسيا واوروبا فيه لان عندهم الدليل وعليهم قول الحقيقة.

السؤال ما هي العواقب ومتى ستأتي سواء الصقت التهمة بالرئيس الفلسطيني، او ايران، او حتى اقتناع الجميع بأن القصة من اخراج وتوزيع شارون او احد اطراف حكمه، فمن يتحمل عبء انتاج هذا الفلم لا يريد له فقط ضربة نجاح اعلامي مؤقتة.