دافوس والعرب والجرأة على الكلام

TT

في خضم كل هذا الاحتدام وافرازات الحادي عشر من سبتمبر (ايلول)، يأتي منتدى دافوس ليصاب بوباء السياسة، وما ادراك ما السياسة. فانعقاده في مدينة نيويورك ينطلق من باب تكريس (محاربة الارهاب)، وطروحاته تدور في فلك السياسية، بعد ان كان توجهه اقتصاديا محضا.

رب قائل ان السياسة تهيمن على مجرى الاحداث، وعلى كل ما يدور على المسرح العالمي، وفي هذا الكثير من الصحة الا ان المعضلة تكمن في استغلال المنتديات العالمية لتكريس رسالة معينة وذات مغزى من منظور سياسي بحت، ليتم اسقاطها وبطريقة تبدو وكأنها طبيعية للمتلقي، الذي قد يتأثر بها فتظهر وكأنها ضمن السياق العام للاحداث. في حين انها تهدف لكسب مواقف معينة، قد لا تجد لها فرصة الظهور والبروز والتأثير لو لم تتح لها هذه المناسبة وهذا المكان.

ولعل هذا ما يميز الفكر الصهيوني (الذكي) ان اردنا الموضوعية، فنهجه الذي يرتكز على الاستفادة من الاعلام (لغة العصر)، باسلوب يشدك في الوهلة الأولى، معتمداً على حشد خطابه بالحدث الذي يوائم الرسالة المراد ايصالها، وبلغة تتسم بسلب العقل الموضوعي، وادخاله في دهاليز (التعاطف الوجداني) الذي بطبيعة الحال يستند الى الادلة (المفبركة) والاحداث (المثيرة)، مما يؤدي الى قراءة الخطاب من زاوية تتطابق مع الزاوية التي خرج منها.

هذا طرح له من الادلة ما يسنده.. وتأمل ما يحدث الآن، فثمة حجر عثرة في سبيل فهم مؤتمر دافوس الحالي، فرئيس الوزراء الاسرائيلي ارييل شارون، قادم ليلقي في المجمع المهيب محاضرة في فن السلام، ويقدم نموذجاً جديداً في ادانة الارهاب، حيث جاءت قصة السفينة (القادمة من ايران) كحدث يمكن ربطه عضوياً (استغلال الحدث) بما حدث في نيويورك، حيث يعقد المنتدى، من اعتداءات، لتشكل صورة نمطية عن العرب تخلد في الاذهان، مخترقة البنى التي تقوم عليها ثقافة الغرب (سلاح الاعلام)، مما يقود في نهاية المطاف الى كسب الجولة، ووضع العرب في قفص الاتهام، في حين يظهر شارون وديعا مثل حيوان أليف «لا يهش ولا ينش».

هذه قدرة، وهي ـ بكل تأكيد ـ تميز وعلو كعب، فذكاء اللوبي الصهيوني، أكثر ما يميزه القدرة على الاختراق، والتصدي لتهشيم الحقائق الناصعة بأسلوب لا يخلو من دهاء ومكر وخبث.

على ان تلك التمخضات هي حصيلة لصراع سياسي وفكري وعقائدي، منذ عقود خلت، الا ان الحقيقة الماثلة تفضح ان تلك الاساليب ما هي الا مواقف ونهج صهيوني، يحفز على دراستها وتأملها، ليس لأنها تنجح، فالنجاح قد لا يستمر، ولكن لان لها صفة الديمومة، أي انها قادرة على الاستمرار رغم المتغيرات (صيرورة ثابتة التحول).. ان جاز التعبير.

وفي تقديري الشخصي، ان العرب هم في أمس الحاجة الى مراجعة آلية تفكيرهم، والخروج من شرنقة التقليدي في النظر الى الاشياء، ان ارادوا المنافسة أو الدخول الى الحلبة على اقل تقدير. فاللوبي الصهيوني لا يلبث ان يكرس تلك المعادلة المثيرة للدهشة (يقتل القتيل ويمشي في جنازته) أو ربما أسوأ من ذلك عندما يكون هو من يطلق الرصاصة، وهو من يستغيث، وتبدو وكأنها مفارقة ولكنها هي حقيقة الحياة، وحقيقة مأساتها ومتاهاتها.

ويبدو وكأن هذا المنتدى جاء ليؤكد تلك الحقيقة، أو ربما تلك المقولة التي وصمت المنتدى عند نشأته بأنه (مؤامرة امبريالية)، فالاتحاد السوفياتي، آنذاك رأى في هذا المنتدى تكريساً للرأسمالية فارتاب في محاوره واجتماعاته، الا ان الرأي المحايد يرى ان هذا المنتدى أفرز كثيراً من الافكار الايجابية والتكهنات الدولية، ولذلك فهو ليس مطالباً بحل المشاكل الدولية بقدر ما هو معني بطرحها ومناقشتها بصوت مسموع. ولعل من تابع المنتدى، قمم دافوس الماضية، وما تمخضت عنه من مفاهيم وتوصيات، يجد انها كانت الاساس في صيانة مشاريع وأفكار لم تلبث ان أخذت مكانها على ارض الواقع، وهذا بمثابة نجاح للرسالة النبيلة التي يؤمن بها المنتدى. غير ان السلبيات لا تفتأ تلوح مع نهاية كل منتدى، وما زالت التهمة في (نخبوية) دافوس تجد قبول اغلب المتابعين لنشاطاته، فالمنتدى لا يعطي الفرصة لمشاركة الدول الاكثر فقراً مقارنة بالدول الاخرى، بالاضافة الى انه يعطي الشركات وضعاً يجعلها في مركز مؤثر على الحكومات مما يفسح في المجال لعمليات الابتزاز والرشاوى والفساد. وبدلا من ان يتغلغل محاور المنتدى حول الارهاب والنزاع الاسرائيلي الفلسطيني (السياسة) عليه ان يعي دوره الحقيقي والذي أنشئ من أجله في مناقشة هموم الاقتصاد العالمي وردم الفجوة ما بين الاغنياء والفقراء ومحاولة تقليص دور الحكومات عبر التخصيص وتوسيع حرية التجارة وتشريح مخاطرها، بالاضافة لآثار التكنولوجيا المعلوماتية والتكنوبيولوجية من منظور سوسيولوجي اقتصادي، ولذلك متى ما ابتعدت محاور المنتدى عن البعد الانساني لقاطني هذا الكوكب ومعالجة مشاكلهم كآثار العولمة ـ على سبيل المثال ـ فإنه سيخسر ذاك التألق والتوهج اللذين تراكما على سفوحه كتراكم الثلج على جبال دافوس ذاتها المزدانة بشجيرات الارز.

على أي حال، ومهما يكن من أمر، فإن العرب مطالبون بالحضور والمشاركة الفاعلة وليس البروتوكولية، لا سيما في حضور وهيمنة خطاب اسرائيلي وفي مدينة امريكية تعرضت لهجوم للتو من عرب.

وفي ظل هذه التعقيدات، هل نبادر الى التنسيق والترتيب والتعاون في ما بيننا؟ بل، لنكن واقعيين، هل نجرؤ على الكلام؟ سؤال محرق لأي اجابة.

* كاتب بحريني