لا تسألونا عن الإرهاب والديمقراطية... فقد نسينا!!

TT

النسيان وما ادراك ما النسيان...

انه مخدِّر الضعيف وسلاح القوي، خاصة عندما يكون النسيان عند القوي انتقائياً يوافق مزاجه ورغباته وأطماعه.

خطر لي هذا الخاطر أمس عندما قرأت عن تشديد الولايات المتحدة وبريطانيا الضغط على الرئيس الباكستاني الجنرال برويز مشرّف للمساهمة بنشاط في حملة مكافحة الإرهاب!! وقد جاء الضغط المتنامي على مشرّف خلال زيارات واتصالات على اعلى المستويات.

وفكّرت برهة، ثم قلت لنفسي «ولكن الرجل يساهم بهمة يحسد عليها في مكافحة الإرهاب، وإلا فكيف نفسّر موقف باكستان الرسمي إزاء حركة طالبان المطاح بها غير مأسوف عليها في افغانستان»؟

وما أتذكره، كما يتذكره آخرون بلا شك، ان الجنرال مشرّف ومؤسسته العسكرية الباكستانية انقلبا بلا تردد، على الحركة التي زرعتها إسلام إباد ورعتها ودعمتها لكي تكون أداة لنفوذها الإقليمي ومخلب قط لها في صراعاتها الحالية والمستقبلية مع ايران، وغير ايران. وكان هذا الدور في الأصل يحظى بمباركة واشنطن ولندن، تماماً كدور باكستان سابقاً في دعم «المجاهدين الأفغان» ضد الاتحاد السوفياتي السابق. واتذكر ايضاً، من دون الاضطرار الى التحدث عن مشروع خط انابيب تركمانستان الذي اشبعته الصحافة الاوروبية والاميركية تغطية، ان الذين فتحوا كل «السجلات السوداء» لطالبان بعد اتخاذ قرار إسقاطها، تجاهلوا طويلاً سوء معاملة المرأة الافغانية ومسلسلات الإعدام بلا محاكمة، واكتفوا ـ كما الطريقة العربية ـ بالاستنكار والشجب.. عندما هدمت طالبان تماثيل بوذا في باميان.

واتذكر ايضاً وايضاً، ان قرار إسقاط طالبان انما اتخذ ـ علناً على الأقل ـ بعد رفض الحركة التجاوب مع طلب تسليم قيادات تنظيم «القاعدة» الموجودين في الأراضي الافغانية. بل صدر غير تصريح عن واشنطن ولندن قبل ساعة الصفر يؤكد انه «ما زال الوقت متاحاً» لقيادة طالبان للتخلي عن عنادها، وبالتالي تجنيب افغانستان نيران الحرب. والمعنى الذي أفهمه لكلام كهذا ان التعايش مع الحركة ـ بكل ما يحفل به سجلّها ـ كان ما زال وارداً في ما لو سارت على خطى الجنرال مشرّف ونفذت «انقلاباً» على مواقفها السابقة.

على صعيد آخر، بعيداً عن تورّط طالبان بـ«الإرهاب»... لننظر الى النقطة الخلافية حول علاقة الإسلام بالإرهاب، ومطالبة عدد من الدول العربية والمسلمة بـ«تعريف» للارهاب. وبالمناسبة، رأيي المتواضع ان فرصة تجاوب واشنطن ولندن مع هذا الطلب أقل حتما من فرصة كاتب هذه السطور بكسب 20 مليون جنيه باليانصيب او «اللوتري»! فقد كرّر الرئيس جورج ووكر بوش ورئيس الوزراء البريطاني توني بلير القول أن لا علاقة للإسلام ابداً بالحملة الراهنة ضد الإرهاب، غير ان الحملة بمحض الصدفة لم تشمل حتى الآن اي تنظيم او فصيل غير إسلامي في مختلف أركان المعمور.

اقول ربما اصغى «ميليشياويو» ايرلندا الشمالية و«نمور» سري لانكا و«ماويّو» كولومبيا و«مرتزقة» انغولا و«مستعمرو» إسرائيل و..و.. الى بوش وبلير وهما يرغيان ويزبدان، فقرّروا ان «السلامة غنيمة»...ولم يصمد في الميدان غير حاملي السلاح من المسلمين..

ربما...

وربما طلع علينا ـ وهذا موسم غلة ـ منظّر آخر بلكنة بوسطنية لا تشوبها شائبة يفلسف للعالم أجمع «الميل الطبيعي» للإسلام والمسلمين نحو التطرف والعنف والإرهاب! غير ان كثيرين من المصفّقين في زفة الحرب على «الأصولية الإسلامية» والمحرّضين عليها، لا يقلّون عنها تجاهلاً لحقوق الإنسان، أو تعصباً وعداوة ضد من ينتمون الى حضارات وأديان مغايرة. ولعل من سخرية القدر ان تأتي بعض مناشدات ضرب الفصائل الأصولية الكشميرية والباكستانية من قلب العاصمة الهندية نيودلهي ومن داخل «بلاط» حكومة حزب «بهاراتيا جاناتا» الذي قاد زعماؤه ـ وعلى رأسهم وزير الداخلية الحالي لال كريشان ادفاني حملة التحريض على هدم المسجد البابري الأثري في ايوديا قبل بضع سنوات..

وما دمنا نتكلم عن العنف الإرهابي والاسلام والهند، ومع واجب استنكار الهجوم الانتحاري الأخرق على مبنى البرلمان الهندي قبل بضعة اسابيع، هل يتذكر العالم جرائم الاغتيال السياسي الثلاث التي هزت الهند؟ فالذي اغتال المهاتما موهانداس غاندي... «إرهابي» هندوسي، والذي اغتال انديرا غاندي «إرهابي» سيخي، والذي اغتال راجيف غاندي «ارهابي» تاميلي.

ولندع الإسلام والمسلمين جانباً، وننظر الى العلاقة بين الديمقراطية و«الإرهاب».. ونراجع المعايير الكلاسيكية لـ«الديمقراطية» وفق مفاهيم الديمقراطيات الغربية. اول هذه المعايير معيار التعددية الحزبية في مجتمع مدني يحترم الحريات العامة ويكفل حق المعارضة بنص دستوري صريح. وتتأمن فيه صحة التمثيل الشعبي ـ الذي هو جوهر الديمقراطية ـ في التجربة الانتخابية وتصان عبر انتخابات دورية نزيهة ترعاه مبادئ حرية التعبير والتجمع والتنظيم السياسي.

غير ان اعتبارات إنجاح الحملات الضخمة المركّزة كـ«حملة الحرب على الإرهاب» لا تتوفر ما لم يستغل فيها سلاح النسيان. فإذا تأمن الإجماع العريض حول الاهداف التكتيكية العابرة جاز التغاضي، مثلاً، عن إن الحكم الباكستاني الحالي حكم إنقلابي عسكري.. لا علاقة له بمبادئ الديمقراطية، التي من أجلها أسست الاحلاف العسكرية فرضت على دول «مارقة» او ثورية الحصارات الاقتصادية بهدف تجويعها وتقويض اقتصادها واستقرارها.

وجاز نسيان ان الهند قبل ان تزلّ بها القدم، فتنجرف نحو هوة «الأصولية» الهندوسية، كانت أقرب الى مُثُل الديمقراطيات الغربية من باكستان التي امضت اغلبية سنوات عمرها كدولة مستقلة منذ عام 1947 تحت حكم «العسكر»... ومع ذلك كانت الشريك الاستراتيجي للغرب الديمقراطي في حلف «السنتو» وحلف «السياتو» وكل الاستراتيجيات الغربية الهادفة لمحاربة الشيوعية السوفياتية.

ومن جديد، لندع شبه القارة الهندية جانباً وننظر في مكان آخر، الشرق الاوسط.. مثلاً.

في الاسبوع الماضي أقام «ابو الديمقراطية الاسرائيلية» الجنرال آرييل شارون الدنيا وبالكاد أقعدها عندما اقتنصت ماكينته الاستخباراتية والعسكرية سفينة شحن في اعالي البحار، واعلن في مؤتمر صحافي مجلجل ان السلاح ايراني المصدر وكان في طريقه الى السلطة الفلسطينية.. التي ـ وفق شارون ـ «ستستخدمه في عمليات إرهابية ضد إسرائيل». لا حاجة الى التوقف طويلاً عند رد الفعل الفلسطيني الرافض والمرتبك.. فهذا أمر مرتقب.

ولا حاجة للكلام عن أعمال البلطجة والقرصنة في أعالي البحار. فهذه كما يتذكر من لا يستطيعون ان ينسوا أضحت جزءاً لا يتجزأ من التراث العسكريتاري الإسرائيلي، وديمقراطية الحكم المدني في «ارض الميعاد»، حيث يقود كلاً من حزبي السلطة... «جنرال» معتّق في ميادين القمع والقتل. ولكن الى اولئك الذين يتذكّرون..

يفترض ان هناك شيئا اسمه «سلطة» فلسطينية وافق عليها المجتمع الدولي. ويفترض ان لهذه السلطة أجهزة أمن...واركان أجهزة الأمن الفلسطينيون تعرفهم الولايات المتحدة ـ على الأقل ـ جيداً بدليل انها دعتهم اليها وحضروا مع المسؤولين الأميركيين اجتماعات رسمية لها محاضر..

ويفترض أن أجهزة الأمن بحاجة الى سلاح، وهي عموماً إذا كان لها ان تعمل فلا بد لها من امتلاك ما هو اكثر من سكاكين المطبخ.

أكثر من هذا. تطالب الديمقراطيات الغربية السلطة منذ مدة بأن تكون «سلطة» توقف ما يعتبره الساسة الغربيون «إرهاباً» في الأراضي المحتلة.. مع العلم ان إسرائيل، نفسها، رغم نجاعة استخباراتها وقواتها القمعية الضاربة عجزت عن منع الهجمات الفدائية في عمق اسرائيل! أوليس اعتراض السفن المدنية في اعالي البحار، وحصار المدن والقرى بغاية التجويع، وقتل الاطفال برصاص القنص، واعتماد سياسة نسف البيوت تأديبياً، و«إعدام» المشتبه فيهم مسبقاً بلا محاكمة... نماذج ناطقة لـ«الإرهاب»؟

لا مؤاخذة، لقد نسينا تعريف الإرهاب.. لأنه ممنوع!